والحاصل أنّنا نحافظ على وحدة السياق وعلى تعدّد المعاني ؛ لأنّ موضوع كلّ منهما يختلف عن الآخر والحاكم فيهما متعدّد ؛ لأنّ الحكم بوحدة المعنى المدلول باللفظ هو الوضع ، بينما الحاكم بتعدّد المعاني وتغايرها هو العقل ، فلا تعارض ولا تنافي بينهما.
وكذلك الحال على القول الثالث ؛ لأنّ التفكيك بين الأوامر وكون بعضها وجوبيّة وبعضها استحبابيّة لا يعني ـ على هذا القول ـ تغاير مدلولاتها ، بل كلّها ذات معنى واحد ، ولكنّه أريد في بعضها مطلقا وفي بعضها مقيّدا.
وكذلك الحال بناء على القول الثالث من أنّ الأمر يدلّ على الطلب والإرادة ، وأمّا الوجوب والاستحباب فهما خارجان عن مدلول اللفظ ؛ لأنّ كلاّ منهما فيه مئونة زائدة ، إلا أنّ الوجوب يتعيّن بالإطلاق وقرينة الحكمة كما تقدّم.
فهنا لا يلزم التنافي والتعارض بين وحدة السياق الظاهرة في وحدة المعنى وبين تعدّد المعنى وتغايره ؛ وذلك لأنّ وحدة السياق تقتضي وحدة المعنى المدلول عليه باللفظ وهو هنا الطلب والإرادة. فتكون كلّ الأوامر مدلولها واحدا هو الطلب والإرادة.
وأمّا كون هذه الإرادة في بعضها شديدة تفيد الوجوب وفي بعضها الآخر ضعيفة تفيد الاستحباب فهذا خارج عن مدلول اللفظ ؛ لأنّ ذلك تابع للإطلاق ومقدّمات الحكمة كما تقدّم.
ومن المعلوم أنّ قرينة الحكمة عبارة عن ظهور حالي سياقي يعيّن المراد الجدّي ، أي الدلالة التصديقيّة الثانية ، بينما المدلول اللفظي هو الدلالة التصوّريّة فلا تتّحد الجهة ليقع التنافي بين وحدة السياق وبين تعدّد المعنى. فالمعنى واحد وهو الإرادة ، غاية الأمر كانت هذه الإرادة مفيدة للوجوب ؛ لأنّها إرادة شديدة وكانت مفيدة للاستحباب ؛ لأنّها إرادة ضعيفة ، والمعيّن للإرادة الشديدة الوجوبيّة هو الإطلاق وقرينة الحكمة ، بينما المعيّن للإرادة الضعيفة والاستحباب هو التقييد وذكر ما يدلّ على ذلك لفظا ، والإطلاق والتقييد من شئون مقصود المتكلّم الجدّي لا من شئون الدلالة اللفظيّة الوضعيّة. فلا مانع من الالتزام بوحدة السياق وتعدّد المعنى.