وعلى التقدير الثاني (١) بالطلب المستفاد منهما ، فلو كانا حقيقتين في الوجوب ـ كما هو الحقّ ـ انحصر الأمر في الإيجاب أو ما يفيده ، والمأمور به في الواجب ، فلا يكون المندوب مأمورا به ، كما تقدّم (٢) وإن كان مطلوبا ، فبطل ما اورد على الحدّ ، بأنّه يصدق على ما يفيد الندب مع عدم كون المندوب مأمورا به.
وبما ذكر يظهر أنّ التعبير عن الخلاف في أنّ الإيجاب هل له صيغة تخصّه أم لا؟ ـ أي صيغة « افعل » وما بمعناها حقيقة في الوجوب أم لا ـ بالخلاف في أنّ الأمر هل له صيغة تخصّه أم لا؟ ـ كما ارتكبه جماعة (٣) ـ صحيح ، فتخطئة هذه الترجمة ـ نظرا إلى عدم الخلاف في إمكان التعبير عن مطلق الطلب بمثل « أمرتك » و « أنت مأمور » ومقيّده بمثل « أوجبت » و « ندبت » ـ خطأ ؛ لأنّ مرادهم أنّ الطلب هل له صيغة تدلّ عليه وضعا بهيئتها ، بحيث لا تدلّ على غيره؟ ومثل « أمرتك » ليس كذلك ؛ لأنّ حقيقته الإخبار.
بقي الكلام في سبب التعبير عن الإيجاب بلفظ الأمر ، والظاهر أنّ سببه كون الإيجاب آكد من الندب في كونه أمرا. والمراد من الدلالة في الحدّ هو المطابقة لا الالتزاميّة ، فلا ينتقض طردا بمثل « لا تستقرّ » و « لا تسكت » ، وعكسا بمثل « اجتنب » و « اسكت ».
اعلم أنّ الأمر لمّا كان من جنس الكلام ـ وهو على التحقيق ينحصر باللفظي المركّب من الحروف والأصوات ، ولا يصحّ النفسي الذي أثبته الأشاعرة (٤) وهو المعنى القائم بالنفس ، المغاير لجنس الحروف والأصوات (٥) ، كما ثبت في محلّه ـ فيجب أن يحدّ الأمر بما حقيقته الحروف والأصوات ، كالقول واللفظ والصيغة بشرائطه (٦) ، كما حدّدناه به (٧) ، لا بما حقيقته المعنى القائم بالنفس كالطلب ومثله ؛ فإنّ المقصود بالذات إظهاره وإلقاؤه إلى المخاطب
__________________
(١) أي كون الأمر هو نفس الطلب.
(٢) تقدّم في ص ٥٩٧.
(٣) منهم : الغزالي في المستصفى : ٢٠٤ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٥٨ و ١٥٩.
(٤) راجع المحصول ٢ : ١٩.
(٥) المستصفى : ٢٠٢ و ٢٠٣.
(٦) أي بشرائط الحدّ.
(٧) تقدّم في ص ٥٩٦.