ولا ريب أنّ ما نحن فيه ليس من الأوّل ، بل من الثاني لو كان المستعمل هو اللغويّ ، واستعمل الصيغة في الوجوب مطلقا ، أو مع قرينة احتمل معها كونها حقيقة فيه. ولو استعملها فيه بقرينة المجاز بحيث لم يحتمل معها كونها حقيقة فيه ، لم يكن من الثاني أيضا ، بل لا يكون (١) حينئذ حقيقة فيه قطعا ، واستعماله عندنا مردّد بينهما. وكيف كان ، لا يمكن الحمل على الحقيقة لأصالة عدم التجوّز.
ولو كان المستعمل هو الشرع أو العرف ، فحكمه كاللغوي ، مع أنّه لو سلّم هنا أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة لا يثبت منه الحقيقة اللغويّة ، بل حقيقتهما ؛ لأنّ استعمال كلّ شخص لو أثبت الحقيقة فإنّما يثبت حقيقته لا حقيقة غيره. فكيف كان ، لا يصحّ التمسّك في إثبات الحقيقة اللغويّة بأصالة الحقيقة ، بل يتوقّف على التمسّك بأصالة عدم النقل. هذا.
وأجاب بعضهم عن الدليل الثاني بمنع الذمّ. ومع التسليم فإنّما هو لترك المندوب ، أو الأمر الدائر بين الواجب والمندوب ؛ فإنّ تارك كلّ منهما يستحقّ الذمّ عقلا (٢).
ولا يخفى أنّه مكابرة ؛ فإنّ تعلّق ذمّ العقلاء بعبد ترك امتثال أمر مولاه وحكمهم بعصيانه بديهيّ ، إنكاره سفسطة ، وبديهة العقل حاكمة بأنّ مثل هذا الذمّ لا يتوجّه على ترك المندوب وما يحتمل الوجوب ؛ فإنّ الفرق ظاهر بين « اسقني » و « ندبتك إلى أن تسقيني » أو « طلبت منك السقي » ، أمّا وجوبا أو ندبا من غير التعيين.
ومنها (٣) : تبادر الوجوب عنها إذا اطلقت عند أهل الشرع والعرف واللغة ، وإنكاره مكابرة ، وهو آية الحقائق الثلاث (٤).
ومنها : أنّ الاشتراك خلاف الأصل ، فيبطل الأقوال المبنيّة عليه ، وتكون حقيقة لأحد المعاني المتقدّمة فقط مجازا في الباقي. وعدم كونها حقيقة لواحد منها فقط غير الوجوب والندب والإباحة ظاهر ؛ لأنّه لم يقل به أحد ، ولو قيل به لكان ظاهر البطلان ، فبقي احتمال كونها حقيقة لأحد الثلاثة فقط.
__________________
(١) لفظ الأمر.
(٢) قاله الفخر الرازي في المحصول ٢ : ٧٤ و ٧٥.
(٣) مرّ أوّل الوجوه في ص ٦٠٢.
(٤) أي الشرعيّة والعرفيّة واللغويّة.