ثمّ إنّها ليست حقيقة في الإباحة فقط ؛ لبداهة اقتضائها ترجيح الفعل ، وليست للندب فقط أيضا ؛ لضرورة الفرق بينها وبين ما يفيد الندب كما ذكرنا (١) ؛ وللزوم عدم كون الواجب حينئذ مأمورا به ، وهو باطل ضرورة ، مع أنّ القول بأنّها للندب فقط (٢) بعيد ؛ لضعف أدلّته ، وندور قائله ، فإذا كانت الصيغة مردّدة بين كونها للوجوب فقط والندب فقط ، فلا يكاد أن يختار الثاني عاقل.
وما قيل : إنّه ينتهض حجّة على القائل بالاشتراك اللفظي دون المعنوي ؛ لأنّه ليس خلاف الأصل (٣) ، ضعيف ؛ لأنّ مخالفة الاشتراك للأصل لإخلاله بالتفاهم وهو حاصل هنا (٤) ؛ فإنّ الصيغة لو كانت حقيقة في الطلب وأحد أفراده الوجوب ، والآخر الندب وهما متغايران ـ ولا يعلم المخاطب أنّ المراد الأوّل حتّى لو لم يمتثل كان عاصيا ، أو الثاني حتّى لو لم يمتثل لم يكن عاصيا ـ فيحصل الإخلال بالتفاهم ، والتكليف بما لا يعلم.
ولا يمكن أن يقال هنا (٥) بجواز إرادة القدر المشترك ، وهو مطلق الطلب في ضمن أيّ منهما كان ؛ لأنّ تخيير المكلّف بين كون الشيء واجبا عليه أو مندوبا عليه لا معنى له ، فالاشتراك المعنوي الذي ليس خلاف الأصل هو ما ليس بهذه المثابة ، بل ما كان بحيث أمكن إرادة القدر المشترك منه من غير لزوم فساد. وهذا (٦) وإن لم يثبت سوى الحقيقة اللغويّة إلاّ أنّ المطلوب (٧) يتمّ به بالضميمة المذكورة (٨).
ومنها : قوله تعالى : ( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ )(٩) ؛ إذ المراد به ( اسْجُدُوا ) في قوله : ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا ... )(١٠) الآية ، دلّ ـ لكونه في معرض الإنكار والاعتراض _
__________________
(١) تقدّم في ص ٥٩٧ ـ ٥٩٨.
(٢) القول لأبي هاشم وكثير من متكلّمي المعتزلة وجماعة من الفقهاء والشافعي كما تقدّم في ص ٦٠٢ ، الهامش ١.
(٣) أشار إليه الفخر الرازي في المحصول ٢ : ٩٤.
(٤ و ٥) أي الاشتراك المعنوي.
(٦) أي هذا الوجه.
(٧) وهو كون الصيغة حقيقة في الوجوب شرعا وعرفا ولغة.
(٨) وهي عبارة عن أصالة الحقيقة.
(٩) الأعراف (٧) : ١٢.
(١٠) البقرة (٢) : ٣٤.