ونذكر فيما يلي شاهدا واحدا من كلماتهم على هذا الفهم المشبع بروح التصوف للقرآن :
يقول بعض كبار علماء هذه الطائفة وكبار العارفين ، في تفسير قوله تعالى :
(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (١) إن عتاب موسى عليهالسلام لهارون لأنه أنكر على هارون إنكاره لعبادة العجل ، وعدم اتساع صدره لعبادة العجل ، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء ، بل يراه عين كل شيء. (٢) وكتب علماء الصوفية حافلة بمثل ذلك ، ولعل فيما خلفه الشيخ العارف بالله والصوفي الشهير ابن العربي في (التفسير) و (الفتوحات) و (الفصوص) وغير ذلك من كتبه ومؤلفاته بعض الشواهد على ذلك ، على أننا نقدر الجهد الفكري الكبير الذي بذله هذا العالم المحقق في معارف القرآن والتوحيد ، في الوقت الذي نشير إلى شطحاته في تفسير كتاب الله.
وهذه الآراء والتفاسير تعد بمجموعها ركاما كبيرا وثقيلا في تاريخ القرآن الكريم وله مردود سلبي على وعي القرآن وأسلوب التعامل معه.
هذا دون أن نقصد بهذا الكلام الانتقاص من الجهد العلمي الكبير الذي بذله هؤلاء العلماء والعارفون في استكشاف أعماق هذا الكتاب ، واستخراج أفكاره ومفاهيمه إلى الناس.
ونحن نحتاج إلى دراستين قرآنيتين لهذه المرحلة أشد ما تكون الحاجة :
الدراسة الأولى : تختص بتاريخ هذه المرحلة من مراحل تفسير القرآن ، وتقسيمها إلى عدد من الفصول والأدوار ، بموجب القفزات النوعية التي قام بها علماء التفسير في حقل التفسير ، والمستجدات القرآنية التي استجدوها خلال هذه الفترة التي تزيد على الألف سنة.
ولو استقرأنا الجهد العلمي والعقلي الذي قام به علماء المسلمين خلال هذه الفترة من الناحية الكمية لعرفنا ضخامة العمل والجهد الذي قام به هؤلاء العلماء ، ولا بد أن تكون الحصيلة النوعية والكيفية لهذا الكم الهائل من الجهد أمرا عظيما ، يستحق الاهتمام والمتابعة ، وعندئذ ندرك ماذا فتح الله على علماء المسلمين خلال هذه الفترة من وعي القرآن ، وماذا بقي على الخلف مما تركه السلف من آفاق ومساحات مجهولة لم تفتح بعد ، لتنظم الجهود وللحيلولة دون تكرار الأعمال.
الدراسة الثانية : تختص بالنقد العلمي للجهود التي بذلت خلال هذه الفترة من تاريخ القرآن.
وهذه الدراسة تفرز الأعمال الأصلية التي استفادت من القرآن عن الأعمال التي حاولت أن تحمل القرآن بمجموعة من التوجهات والمتبنيات الفكرية ، وبالتالي تفرز لنا الجهود التي خضعت للقرآن ، وكونت رأيا وفهما وذوقا خاضعا لكتاب الله ، عن الجهود التي حاولت إخضاع كتاب الله لأذواق ومتبنيات أصحابها ، كما تفرز لنا هذه
__________________
(١) الأعراف ٧ : ١٥٠.
(٢) شرح القيصري : ٤٣٧.