إنّ الأبحاث العلمية وتبحّر الإنسان بالكشف عن ماضيه الثقافي تثبت أنّ اللغات مرّت بالمقطع البسيط ثم المقطعين فالمقاطع ، وعربيا الحرف المصوّت فالثنائي فالثلاثي. مثال : (ع) تدلّ على صوت الزئير و (ا) الصوت المتكرر. ومثال الثنائي (عو) والثلاثي (عوى) (١). وفي ختام التجربة وقفت لغات وماتت لغات. ويماثل هذه العملية المغرقة في التاريخ ، والموغلة في التجربة
الأناسية اللغوية شاهد على كيفية نمو التصويت والنطق واستعمال المحسوس ثم المجرد ، والأمر يحصل عند الطفل تباعا.
ولعلّ الدراسات التربوية والنفسية الحديثة والمعاصرة وافية في هذا المضمار ، بحيث تقاس الإنسانية ، في تطورها نحو التجريد ، على الطفل في نموّه.
أما القدماء فوقفوا عند قوله عزوجل القائل (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) البقرة / ٣١. فعلّق الجاحظ (١٦٠ ـ ٢٥٥ ه) قائلا : «لا يجوز أن يعلّمه الاسم ويدع المعنى ويعلّمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه. والاسم بلا مسمّى لغو كالظرف الخالي ...
ولو أعطاه الأسماء بلا معان لكان كمن وهب شيئا جامدا لا حركة له ، وشيئا لا حسن فيه ... ولا يكون اللفظ اسما إلا وهو مضمّن بمعنى» «وقد يكون المعنى ولا اسم له ، ولا يكون اسم إلا ويكون له معنى» (٢). وقيل أيضا : «إن استعمال العبارة على وجه يفيد ويصحّ لا يكون إلا بعد العلم بما وضعت له» (٣) فهي تابعة للمعنى أي للنشاط العقلي.
فاللغة وضع في أساسها ، ومن هذا الوضع تخرج الأسماء العرفية ، أي ما تعارف عليه القوم ، بحيث يوضع الاسم لمعنى عام يخصص (٤).
وأعاد زكي الأرسوزي ـ القرن العشرين ـ هذا الاتجاه وتوسّع فيه ، ثم أضاف التجربة الوجدانية على التجربة الطبيعية وسمّاه الايحاء ، كفرس ، من (فرّ) وصوت (س) المعبّر عن الحركة.
وذهب هذا المذهب في أوروبا (Whitney) ، ومن أشهر مؤلفاته : (حياة اللغة ١٨٧٥) و (اللغة ودراستها ١٨٧٦). واهتمامه انصب على الدلالة وحقل المعنى (Semantique) ، ومنشأ اللغة يطرح في أبعاده مسائل الازدواجية بين اللفظ والمعنى ،
__________________
(١) العلائلي ، عبد الله ، تهذيب المقدمة اللغوية ، بيروت ، دار النعمان ، ١٩٦٨ ،
(٢) الجاحظ ، رسائل الجاحظ ، تحقيق عبد السلام هارون ، القاهرة ، الخانجي ، ١٩٦٥ ، ج ١ ، ص ٢٦٢.
(٣) عبد الجبار ، المغني في أبواب التوحيد ، القاهرة ، وزارة الثقافة ، ١٩٦١ ، ج ٨ ، ص ٣٦.
(٤) الغزالي ، أبو حامد ، المستصفى من علم الأصول ، دار صادر ، ج ١ ، ص ٣٢٦.