ما أودع نهج البلاغة من فنون الفصاحة ، وما خص به من وجوه البلاغة ، خصوصا وهو لم يترك غرضا من أغراض الكلام إلا أصابه ، ولم يدع للفكر ممرا إلا جابه» وهو الذى يقول جامعه الشريف الرضى فى سبب توليفه «علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ، ما لا يوجد مجتمعا فى كلام ، ولا مجموع الأطراف فى كتاب ، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها ، ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب ، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا ، وتقدم وتأخروا». هذا كتاب «نهج البلاغة» وهو الذى عرفت منزلته بين الكتب ، وسمعت الثناء العظيم عليه من رجل من رجالات الأدب والبيان فى عصر العلم والبيان ، وهو «أشعر الطالبيين من مضى ومن غبر ، على كثرة شعرائهم المفلقين» (١) ومن حكيم الاسلام وإمام المسلمين وزعيم الدعوة الاجتماعية والأدبية فى العصر الحديث ، فليس بدعا أن نحضك على قراءته ومعاودة مراجعته ، ثم على التأسى به وقفو نهجه ، وليس كثيرا أن نكفل لك إذا أنت لم تأل جهدا فى اتباع هذه النصيحة أن تبلغ الذروة ، وتصل إلى ما تطمع فيه من امتلاك أزمة البلاغة ، والتمكن من أعنتها. وليس من شك عند أحد من أدباء هذا العصر ، ولا عند أحد ممن تقدمهم ، فى أن أكثر ما تضمنه «نهج البلاغة» من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، نعم ليس من شك عند أحد فى ذلك ، وليس من شك عند أحد فى أن ما تضمنه الكتاب جار على النهج المعروف عن أمير المؤمنين ، موافق للأسلوب الذى يحفظه الأدباء والعلماء من كلامه الموثوق بنسبته إليه ، ولكن بعض المعروفين من أدباء عصرنا يميلون إلى أن بعض ما فى الكتاب من خطب ورسائل لم يصدر عن غير الشريف الرضى جامع الكتاب : هو منشئه ، وهو مدعى نسبته إلى الامام ، وهم فى ذلك يترسمون خطوات بعض المتقدمين ممن قرب من عهد الرضى ومن بعد عنه ، فقد سبق إلى التشكك فى شأن الكتاب واستبعاد نسبة جميع ما فيه إلى الامام على رضى اللّه عنه قاضى القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن أبى بكر خلكان الاريلى : المولود بمدينة
__________________
(١) يقول ذلك الثعالبى فى شأن الشريف الرضى.