وقال ابن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبا منها فولدت فيها إبراهيم فأصلحت من شأنه ما يصنع من المولود ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل فتجده حيّا يمص إبهامه.
وقال أبو روق : كانت أم إبراهيم كلما دخلت على إبراهيم وجدته يمص أصابعه ، فقالت ذات يوم : لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من إصبع ماء ومن إصبع عسلا ومن إصبع لبنا ومن إصبع تمرا ومن إصبع سمنا.
قال محمد بن إسحاق : وكان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل. فقالت : ولدت غلاما فمات ، فصدقها فسكت عنها وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر ، والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلّا خمسة عشر شهرا ثم رجع إلى أبيه آزر فأخبره إنه ابنه وأخبرته أم إبراهيم إنه ابنه وأخبرته بما كانت صنعت في غيابه فسر بذلك آزر وفرح فرحا شديدا ، قالوا : فإنما شب إبراهيم وهو في السرب بعد ما قال لأمه : من ربي؟
قالت : أنا ، قال : فمن ربك؟ قالت : أبوك ، قال : فمن ربّ أبي؟ قالت له : أسكت ، فسكت ، فلما رجعت إلى زوجها قالت : أرأيت الغلام الذي كنّا نتحدّث إنه بغير دين أهل الأرض فإنه ابنك ثم أخبرته بما قال لها ، فأتاه أبوه آزر فقال له إبراهيم : يا أبتاه من ربي؟ قال : أمك ، قال : فمن رب أمي؟ قال : أنا ، قال : من ربك أنت؟ قال نمرود ، قال : فمن رب نمرود؟
فلطمه لطمة وقال : أسكت وقم ، قال لأبويه : أخرجاني ، فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل ، والخيل ، والغنم ، فقال : أباه ما هذه؟ قال : إبل وخيل وغنم ، فقال : ما لهذه بدّ من أن يكن لها رب وخالق ثم نظر وتفكر في خلق السماوات والأرض. فقال : إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني ربي ما لي إله غيره. ثم نظر فإذا المشتري قد طلع ويقال الزهرة وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فرأى الكوكب قبل القمر. فقال : هذا ربي فذلك قوله عزوجل : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أي دخل يقال : جن الليل وأجن وجنه الليل وأجنه وجن عليه الليل يجن جنونا وجنانا إذا أظلم ومضى كلّ شيء ، وإنما سميت الجن لاجتنانها فلا ترى.
قال أبو عبيدة : جنون الليل سواده ، وأنشد :
فلو لا جنان الليل أدرك ركضنا |
|
بذي الرمث والأرطى عياض بن ناشب (١) |
ورأى كوكبا فـ (قالَ هذا رَبِّي) اختلفا فيه فأجراه بعضهم على الظاهر. وقالوا : ما كان
__________________
(١) الصحاح : ٥ / ٢٠٩٤ وفيه : ركابنا ، وتفسير القرطبي : ٧ / ٢٥. والرمث بالكسر مرعى الإبل ، والأرطى شجر ينبت بالرمل.