إليهم منكم رجلا واحدا ، ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليّ ولا أراكم تتّهموني ، قالوا : صدقت ، قال : فاكتموا عليّ قالوا : نفعل ، ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم ، فلمّا كانت ليلة السبت في شوّال سنة خمس ، وكان ممّا صنع الله برسوله ، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان ، فقالوا لهم : إنّا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمّدا ونفرغ ممّا بيننا وبينه.
فأرسلوا إليهم : إنّ اليوم السبت ، وهو يوم لا يعمل فيه شيئا ، وكان قد أحدث بعضنا فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّدا ، فإنّا نخشى إن [ضرستكم] الحرب واشتدّ عليكم القتال تسيروا إلى بلادكم ، وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمّد.
فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : تعلمون والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ ، فأرسلوا إلى بني قريظة ، إنّا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال ، فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ ، ما يريد القوم إلّا أن تقاتلوا ، فإن وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلادكم ، فأرسلوا إلى قريش وإلى غطفان : إنّا والله لا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهنا ، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم ، وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد ، حتّى انصرفوا راجعين (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
قال الله تعالى : (وَإِذْ زاغَتِ) مالت (الْأَبْصارُ) وشخصت (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) فأمّا المنافقون فظنّوا أنّ محمّدا وأصحابه سيغلبون ويستأصلون ، وأمّا المؤمنون فأيقنوا أنّ ما وعدهم الله حقّ [من] أنّه سيظهر دينه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (١).
واختلف القرّاء في قوله : (الظُّنُونَا) و (الرَّسُولَا) و (السَّبِيلَا) ، فأثبت الألفات فيها وصلا ووقفا ، أهل المدينة والشام وأيّوب وعاصم برواية أبي بكر ، وأبو عمر برواية ابن عبّاس. والكسائي برواية قتيبة ، قالوا : إنّ ألفاتها ثابتة في مصحف عثمان وسائر مصاحف البلدان. وقرأها أبو عمرو في سائر الروايات وحمزة ويعقوب بغير (ألف) في الحالين على الأصل.
وقرأ الباقون بالألف في الوقف دون الوصل ، واحتجّوا بأنّ العرب تفعل ذلك في قوافي
__________________
(١) بطوله في تفسير القرطبي : ١٤ / ١٣٥. ١٣٨ مورد الآية ، وتاريخ الطبري : ٢ / ٢٤٣.