ومع ذلك ، فإننا نلمس لديه إحساسا مرهفا بالدعابة اللطيفة المغلفة بالظرف والطرافة. ويبدو هذا واضحا في رصده لتصرفات الخاتون بنت أمير الموصل ، على سبيل المثال. كما أنه حين مر في مدينة حمص ، المعروفة بظرف أهلها ، سأل أحد أبنائها : «أليس عندكم مارستان؟» واستنكر الرجل السؤال وأجاب : «حمص كلها مارستانات!»
وفي الطريق من بغداد إلى الموصل ، كانت الخاتونان : (بنت الأمير مسعود ملك الدروب والأرمن وأم عز الدين صاحب الموصل) هما قائدتي العسكر المرافق لموكب الحجيج ، فلم يتمالك نفسه من ترديد قول الشاعر :
ضاع الرعيل ومن يقوده!
زمن الرحلة
امتدت هذه الرحلة سنتين وشهرين وثلاثة أسابيع (١) ، بدأها يوم الخميس في ٨ شوال سنة ٥٧٨ ه ، الموافق ٣ فبراير (شباط) ١١٨٣ م ، وختمها في ٢٢ محرم سنة ٥٨١ ه ، الموافق ٢٥ أبريل (نيسان) ١١٨٥ ، ولم يدوّن غيرها. وحسبنا هنا أن نتأمل بعض مشاق الطرق البحرية والنهرية والبرية التي سار فيها الرحالة ، فضلا عن رحلته في النيل من المتوسط إلى مدينة قوص على الحدود بين مصر والسودان. ولا يمكن أن ننسى الأخطار المحدقة بالمسافرين المسلمين في مراكب الجنويين في تلك الحقبة التاريخية الرهيبة من حملات الغزو والعدوان. فقد كان طريق الحج الشامي عبر العقبة مقطوعا أو غير آمن ، وهذا ما دفع بالرحالة وصحبه أن يواصل ترحاله شرقا ، مع الحج العراقي من المدينة المنورة إلى بغداد فالموصل فحران ليرجع من هناك عبر سوريا وبعض مدن فلسطين ، ثم توجه أخيرا من ميناء عكا عائدا إلى غرناطة بحرا.
__________________
(١) يحددها ابن جبير بالتقويم الهجري في ختام رحلته بسنتين وثلاثة أشهر ونصف الشهر. ولا بد لي من الاعتذار عن خطأ وقعت فيه في مقدمة الطبعة الأولى من سلسلة «ارتياد الآفاق» (سنة ٢٠٠١) إذ قدرت مدة الرحلة بثلاث سنوات وبضعة أشهر.