وكانت رحلته الثانية إلى بيت المقدس ، بعد أن استردها صلاح الدين وحررها من الصليبيين. وفي هذه الرحلة ، خرج من غرناطة في التاسع من ربيع الأول سنة ٥٨٥ ه / ١١٨٩ م وعاد إليها سنة ٥٨٧ ه / ١١٩١ م. وبمناسبة فتح بيت المقدس ، مدح صلاح الدين بقصيدة يقول فيها :
أطلت على أفقك الزاهر |
|
سعود من الفلك الدائر |
ثم قام برحلة ثالثة إلى الحجاز ، ملتمسا العزاء إثر وفاة زوجته. وكانت هذه آخر رحلاته ، إذ جاور بمكة حينا من الزمن ثم في بيت المقدس ، وتجول في ربوع مصر حتى استقر أخيرا في الإسكندرية منصرفا للتدريس إلى أن وافته المنية هناك في التاسع والعشرين من شعبان سنة ٦١٤ ه / ١٢١٧ م.
وسواء كان سفره في البر أو البحر ، فإن شغف الكاتب الأصيل في رصد أهوال الطريق ومباهجها وأحوال الجو وتقلباته لا يفارقه أبدا. ونراه طوال سنوات الرحلة مواظبا على صلاته في أوقاتها ، مستمسكا بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، حريصا على دينه ، مقتديا بالسلف الصالح ومناقبهم ، مستنكرا كل زيغ أو انحراف طرأ على معتقدات الناس وعاداتهم وتصرفاتهم. فهو يقوم بمهمة المصلح الاجتماعي ، ولا يضن بحمل رسالته في التنديد بكل منكر أملا في إشاعة الفضيلة وحسن المعاملة بين الناس.
لكن القارئ لا بد أن يشعر بفيض من الأسى والعتب على أجدادنا الذين لم يحافظوا على كثير من تلك الآثار المقدسة التي دونها ابن جبير بحرص ومحبة واستفاضة ، وقد ضاعت مع الأيام ولم يبق منها غير ألق الذكرى ، بينما نرى أعداءنا يتخذون من أساطيرهم الخرافية صروحا لا يجرؤ أحد على المساس بها أو الإساءة إليها.
رافق ابن جبير في رحلة الحج هذه أحمد بن حسان ، ويكنى بأبي جعفر ، وكان مولده ومنشؤه في غرناطة. وقد اشتغل بصناعة الطب وأجاد في علمها وعملها وخدم المنصور بطبّه ، وتوفي بمدينة فاس. وله كتاب (تدبير الصحة) ألفه للمنصور.