مطر ترسله الرياح بقوة ، كأنه شآبيب (١) سهام. فعظم الخطب واشتد الكرب ، وجاءنا الموج من كل مكان أمثال الجبال السائرة. فبقينا على تلك الحال الليل كله ، واليأس قد بلغ منا مبلغه ، وارتجينا مع الصباح فرجة تخفف عنا بعض ما نزل بنا. فجاء النهار ، وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ذي القعدة ، بما هو أشد هولا وأعظم كربا ، وزاد البحر اهتياجا واربدت الآفاق سوادا ، واستشرت الريح والمطر عصوفا ، حتى لم يثبت معها شراع. فلجئ إلى استعمال الشّرع الصغار. فأخذت الريح أحدها ومزقته وكسرت الخشبة التي ترتبط الشرع فيها ، وهي المعروفة عندهم بالقريّة (٢). فحينئذ تمكن اليأس من النفوس ، وارتفعت أيدي المسلمين بالدعاء إلى الله عز وجل. وأقمنا على تلك الحال النهار كله. فلما جن الليل فترت الحال بعض فتور ، وسرنا في هذه الحال كلها بريح الصواري سيرا سريعا.
جزيرة صقلية
وفي ذلك اليوم حاذينا بر جزيرة صقلية. وبتنا تلك الليلة ، التي هي ليلة الخميس التالية لليوم المذكور ، مترددين بين الرجاء واليأس. فلما أسفر الصبح نشر الله رحمته ، وأقشعت السحاب وطاب الهواء وأضاءت الشمس وأخذ في السكون البحر. فاستبشر الناس وعاد الأنس وذهب اليأس ، والحمد لله الذي أرانا عظيم قدرته ، ثم تلافى بجميل رحمته ولطيف رأفته ، حمدا يكون كفاء لمنته ونعمته. وفي هذا الصباح المذكور ، ظهر لنا بر صقلية وقد أجزنا أكثره ولم يبق منه إلا الأقل. وأجمع من حضر من رؤساء البحر من الروم وممن شاهد الأسفار والأهوال في البحر من المسلمين أنهم لم يعاينوا قط مثل هذا الهول في ما سلف من أعمارهم ، والخبر عن هذه الحال يصغر في خبرها (٣). وبين البرين المذكورين ، بر سردانية وبر صقلية ، نحو الأربعمائة ميل.
__________________
(١) الشآبيب (جمع شؤبوب) : زخات المطر الشديدة.
(٢) القرية (بفتح القاف وكسر الراء وفتح الياء وتشديدها) : العارضة الخشبية في أعلى الصاري.
(٣) الخبر (بفتح الخاء والباء) : النبأ ، الخبر (بضم الخاء وسكون الباء) : الاختبار والتجربة.