الله ، عزّ وجل ، والمنتمين للطلب. فالشأن بهذه البلدة لهم عجيب جدا. وهذه البلاد المشرقية كلها على هذا الرسم ، لكن الاحتفال بهذه البلدة أكثر والاتساع أوجد. فمن شاء الفلاح من نشأة مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد ويتغرب في طلب العلم فيجد الأمور المعينات كثيرة ، فأولها فراغ البال من أمر المعيشة ، وهو أكبر الأعوان وأهمها. فاذا كانت الهمة فقد وجد السبيل إلى الاجتهاد ، ولا عذر للمقصر إلا من يدين بالعجز والتسويف ، فذلك من لا يتوجه هذا الخطاب عليه ، وإنما المخاطب كل ذي همة يحول طلب المعيشة بينه وبين مقصده في وطنه من الطلب العلمي. فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك ، فادخل أيها المجتهد بسلام ، وتغنم الفراغ والانفراد قبل علق الأهل والأولاد ، وتقرع سن الندم على زمن التضييع ، والله يوفق ويرشد ، لا إله سواه. قد نصحت أن ألفيت سامعا ، وناديت أن أسمعت مجيبا ، [ومن يهد الله فهو المهتد](١) ، جلت قدرته ، وتعالى جده. ولو لم يكن بهذه الجهات المشرقية كلها إلا مبادرة أهلها لإكرام الغرباء وإيثار الفقراء ، ولا سيما أهل باديتها ، فإنك تجد من بدار إلى بر الضيف عجبا ، كفى بذلك شرفا لها. وربما يعرض أحدهم كسرته على فقير فيتوقف عن قبولها ، فيبكي الرجل ويقول : لو علم الله فيّ خيرا لأكل الفقير طعامي ، لهم في ذلك سرّ شريف.
ومن عظيم أمرهم تعظيمهم للحاج ، على قرب مسافة الحج منهم ، وتيسير ذلك لهم ، واستطاعتهم لسبيله. فهم يتمسحون بهم عند صدورهم ، ويتهافتون عليهم تبركا بهم. ومن أغرب ما حدثناه من ذلك : أن الحاج الدمشقي مع من انضاف إليهم من المغاربة عند صدورهم إلى دمشق في هذا العام ، الذي هو عام ثمانين ، خرج الناس لتلقيهم : الجمّ الغفير نساء ورجالا ، يصافحونهم ويتمسحون بهم ، وأخرجوا الدراهم لفقرائهم يتلقونهم بها ، وأخرجوا إليهم الأطعمة. فأخبرني من أبصر كثيرا من النساء يتلقين الحاج ويناولنهم الخبز ، فإذا عض الحاج فيه اختطفنه من أيديهم وتبادرن لأكله تبركا بأكل الحاج له ودفعن له عوضا منه دراهم ، غير ذلك من الأمور العجيبة ضد ما اعتدنا في المغرب في ذلك ، وصنع بنا في بغداد عند تلقي الحاج بها ، مثل ذلك أو قريب منه. ولو شئنا استقصاء هذه الأمور لخرجت بنا عن مقصد التقييد ، وإنما وقع الإلماع
__________________
(١) الإسراء : ٩٧.