الظنون ، ونغازل المنون ، حذرا من نفاد الزاد والماء ، والحصول بين المهلكين الجوع والظماء. فمن قائل يقول : إنا قد ملنا في جرينا إلى بر المغرب ، وهو بر أفريقية. وآخر يزعم : أنا قد ملنا إلى بر الأرض الكبيرة (١) ، بر القسطنطينية وما يليها. ومنهم من يقول : إلى اللاذقية جهة الشام. ومنهم من يقول : إلى دمياط بر الاسكندرية. وكنا نحذر أن تلجئنا الريح إلى إحدى جزائر الرمانية الخالية ، فنشتو فيها ، أو تضطرنا الحال إلى المعمور منها. وليس في هذه الوجوه المتوقعة كلها وجه فيه حظ لمختار ، حتى أتى الله بالفرج ، وأذهب البأس واليأس ، ومكن في النفوس الإيناس ، بعد مكابدة الأمرين ، ومقاساة البرحين ، فلله در القائل (٢) :
البحر مرّ المذاق صعب |
|
لا جعلت حاجتي إليه |
أليس ماء ونحن طين |
|
فما عسى صبرنا عليه |
ونحن الآن بفضل الله تعالى نتطلع البشرى بظهور بر صقيلة ، إن شاء الله.
هول العاصفة
وفي النصف من ليلة الأحد الحادي عشر منه انقلبت الريح غربية ، وكشف النوء من الغرب ، وجاءت الريح عاصفة فأخذت بنا جهة الشمال. وأصبحنا يوم الأحد المذكور والهول يزيد ، والبحر قد هاج هائجه ، وماج مائجه ، فرمى بموج كالجبال ، يصدم المركب صدمات يتقلب لها على عظمه تقلب الغصن الرطيب ، وكان كالسور علوا فيرتفع له الموج ارتفاعا يرمي في وسطه بشآبيب كالوابل المنسكب. فلما جنّ الليل اشتد تلاطمه ، وصكت الآذان غماغمه ، واستشرى عصوف الريح. فحطت الشرع ، واقتصر على الدلالين الصغار دون أنصاف الصواري. ووقع اليأس من الدنيا ، وودعنا الحياة بسلام ، وجاءنا الموج من كل مكان ، وظننا أنا قد أحيط بنا ، فيا لها ليلة يشيب لها سود الذوائب ، مذكورة في ليالي الشوائب ، مقدمة في تعداد الحوادث
__________________
(١) تتكرر هذه العبارة في عدة مواضع والمقصود بها البر الأوربي مقارنة بالجزر في المتوسط.
(٢) هذا الشعر لابن رشيق القيرواني (١٠٠ ـ ١٠٧١ م).