الإسكندرية عن عهد نحو خمسين يوما فأسقطتهما الريح. فأقمنا بذلك المرسى أربعة أيام ، وجدد الناس به الماء والزاد ، لأن العمارة كانت منا قريبا ، فنزل أهل الجزيرة وبايعوا أهل المركب في الخبز واللحم والزيت وما كان عندهم من الأدم. ولم يكن خبزهم برا خالصا ، إنما كان خليطا بالشعير وكان يضرب للسواد. فتهافت الناس عليه على غلائه ، ولم يكن بالرخيص في سومه ، وشكروا الله على ما من به عليهم.
وفي هذا المرسى كمل لنا على ظهر البحر أربعون يوما ، والحمد لله على كل حال. ومدة مقامنا بالمرسى لم يفتر عصوف الريح الغربية ، وعادت أشد ما يكون هبوبا. فحمدنا الله تعالى على أن لم تأخذنا ونحن على ظهر البحر جارين ، والحمد لله على جميل صنعه.
بين اليأس والرجاء
وأقلعنا من المرسى المذكور يوم الاثنين التاسع عشر لشعبان المذكور ، والسادس والعشرين لنونبر ، بريح طيبة موافقة ، فاستبشرنا بها واستطلعنا جميل صنع الله ، عزّ وجل ، ولطف قضائه ، لا رب سواه. وتمادى سيرنا إلى يوم الخميس الثاني والعشرين لشعبان ، والتاسع لنونبر. ثم انقلبت الريح غريبة وأنشأت سحابة فيها رعد قاصف ، وزجتها ريح عاصف ، وتقدمها برق خاطف ، فأرسلت حاصبا من البرد صبته علينا في المركب شآبيب متداركة ، فارتاعت له النفوس ، ثم أسرع انقشاعها ، وانجلى عن الأنفس ارتياعها ، وبتنا ليلة الجمعة مبيت وحشة وطالعنا بها اليأس من مكمنه. فلما أسفر الصبح وطلع النهار أبصرنا بر صقلية لائحا أمامنا. فيا لها بشرى ومسرة ، لو لم تعد حسرة في كرة! فأمسينا ليلة السبت ، وهو أول يوم من دجنبر ، ونحن على إدراكه في أقل من ثلثها أو منتصفها ، ولكل أجل كتاب وميقات. وكم أمل تعترض دونه الآفات ، فما كان إلا كلا ولا حتى ضربت في وجوهنا ريح أنكصتنا على الأعقاب ، وحالت بين الأبصار والارتقاب. وما زالت تعصف ، حتى كادت تنسف وتقصف ، فحطت الشرع عن صواريها ، واستسلمت النفوس لباريها ، وتركنا بين السفينة ومجريها. وتتابعت علينا عوارض ديم ، حصلنا منها ومن الليل والبحر في ثلاث ظلم ، وعباب الموج تتوالى صدماته ، وتطفر الألباب رجفاته. فنبذت نفوسنا كل أمنية ، وتأهبت للقاء المنية.