عليه ، وللمسلمين فيها ربض كبير لهم فيه المساجد ، ولها قلعة سامية منيعة. وفي أسفل البلدة حمة قد أغنت أهلها عن اتخاذ حمام. وهذه البلدة من الخصب وسعة الرزق على غاية. والجزيرة بأسرها من أعجب بلاد الله في الخصب وسعة الأرزاق. فأقمنا بها يوم الخميس الرابع عشر للشهر المذكور ، ونحن قد أرسينا في واد بأسفلها ويطلع فيه المد من البحر ثم ينحسر عنه. وبتنا بها ليلة الجمعة ، ثم انقلب الهواء غربيا ، فلم نجد للإقلاع سبيلا ، وبيننا وبين المدينة المقصودة ، المعروفة عند النصارى ببلارمة ، خمسة وعشرون ميلا ، فخشينا طول المقام ، وحمدنا الله تعالى على ما أنعم به من التسهيل في قطع المسافة في يومين. وقد تلبث الزوارق في قطعها ، على ما أعلمنا به ، العشرين يوما والثلاثين يوما ونيفا على ذلك.
فأصبحنا يوم الجمعة منتصف الشهر المبارك على نية من المسير في البر على أقدامنا ، فنفذنا لطيتنا وتحملنا بعض أسبابنا وخلفنا بعض الأصحاب على الأسباب الباقية في الزورق. وسرنا في طريق كأنها السوق عمارة وكثرة صادر ووارد ، وطوائف النصارى يتلقوننا فيبادرون بالسلام علينا ويؤنسوننا ، فرأينا من سياستهم ولين مقصدهم مع المسلمين ما يوقع الفتنة في نفوس أهل الجهل ، عصم الله جميع أمة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، من الفتنة بهم بعزّته ومنّه. فانتهينا إلى قصر سعد ، وهو على فرسخ من المدينة ، وقد أخذ منا الإعياء فملنا إليه وبتنا فيه.
قصر سعد ومسجده
وهذا القصر على ساحل البحر مشيد البناء عتيقه قديم الوضع من عهد ملكة المسلمين للجزيرة ، لم يزل ولا يزال ، بفضل الله ، مسكنا للعباد منهم ، وحوله قبور كثيرة للمسلمين : أهل الزهادة والورع ، وهو موصوف بالفضل والبركة مقصود من كل مكان. وبإزائه عني تعرف بعين المجنونة ، وله باب وثيق من الحديد ، وداخله مساكن ، وعلالي مشرفة وبيوت منتظمة ، وهو كامل مرافق السكنى ، وفي أعلاه مسجد من أحسن مساجد الدنيا بهاء ، مستطيل ذو حنايا مستطيلة ، مفروش بحصر نظيفة ، لم ير أحسن منها صنعة ، وقد علق فيه نحو الأربعين قنديلا من أنواع الصفر والزجاج.