أحسن المراسي وأوفقها للمراكب. ولذلك يقصد الروم كثيرا إليها ولا سيما المقلعون إلى بر العدوة ، فإن بينها وبين تونس مسيرة يوم وليلة ، فالسفر منها إليها لا يتعطل شتاء ولا صيفا إلا ريثما تهب الريح الموافقة ، فمجراها في ذلك مجرى المجاز القريب. وبهذه المدينة السوق والحمام وجميع ما يحتاج إليه من مرافق المدن ، لكنها في لهوات (١) البحر لإحاطته بها من ثلاث جهات ، واتصال البر بها من جهة واحدة ضيقة ، والبحر فاغر فاه لها من سائر الجهات ، فأهلها يرون أنه لا بد له من الاستيلاء عليها وإن تراخى مدى أيامها ، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى.
وهي مرفقة موافقة لرخاء السعر بها لأنها على محرث عظيم ، وسكانها المسلمون والنصارى ، ولكلا الفريقين فيها المساجد والكنائس. وبركنها من جهة الشرق ، مائلا إلى الشمال على مقربة منها ، جبل عظيم مفرط السمو متسع ، في أعلاه قنة تنقطع عنه ، وفيها معقل للروم. وبينه وبين الجبل قنطرة ، ويتصل به في الجبل للروم بلد كبير ، ويقال إن حريمه من أحسن حريم هذه الجزيرة ، جعلها الله سببا للمسلمين.
وبهذا الجبل الكروم والمزارع. وأعلمنا أن به نحو أربعمائة عين متفجرة ، وهو يعرف بجبل حامد. والصعود إليه هين من إحدى جهاته ، وهم يرون أن منه يكون فتح هذه الجزيرة ، إن شاء الله. ولا سبيل أن يتركوا مسلما يصعد إليه ، ولذلك أعدوا فيه ذلك المعقل الحصين ، فلو أحسوا بحادثة حصلوا حريمهم فيه وقطعوا القنطرة. واعترض بينهم وبين الذي في أعلاه متصل به خندق كبير. وشأن هذا البلد العجيب ، فمن العجب أن يكون فيه من العيون المتفجرة ما تقدم ذكره ، وأطرابنش في هذا البسيط ولا ماء لها إلا من بئر على البعد منها ، وفي ديارها آبار قصيرة الأرشية ، ماؤها كلها شريب لا يساغ.
وألفينا المركبين الذين يرومان الإقلاع إلى المغرب بها ، ونحن ، إن شاء الله ، نؤمل ركوب أحدهما ، وهو القاصد إلى بر الأندلس ، والله بمعهود صنعه الجميل كفيل بمنه. وفي غربي هذه البلدة ، أطرابنش المذكورة ، ثلاث جزائر في البحر على نحو فرسخين منها ، وهي صغار متجاورة : إحداها تعرف بمليطمة ، والأخرى بيابسة ، والثالثة تعرف
__________________
(١) لهوات (جمع لهاة) : لسان المزمار في الحلق ، والتشبيه واضح.