والتحفن اللحف الرائقة ، وانتقبن بالنقب الملونة ، وانتعلن الأخفاف المذهبة ، وبرزن لكنائسهن أو كنسهن حاملات جميع زينة نساء المسلمين من التحلي والتخصب والتعطر. فتذكرنا على جهة الدعابة الأدبية قول الشاعر (١) :
إن من يدخل الكنيسة يوما |
|
يلق فيها جآذرا وظباء |
ونعوذ بالله من وصف يدخل مدخل اللغو ، ويؤدي أباطيل اللهو ، ونعوذ به من تقييد ، يؤدي إلى تفنيد ، إنه سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة. فكان مقامنا بهذه المدينة سبعة أيام ، ونزولنا بها في أحد فنادقها التي يسكنها المسلمون ، وخرجنا منها صبيحة يوم الجمعة الثاني والعشرين لهذا الشهر المبارك ، والثامن والعشرين لشهر دجنبر ، إلى مدينة أطرابنش ، بسبب مركبين بها : أحدهما يتوجه إلى الأندلس ، والثاني إلى سبتة. وكنا أقلعنا إلى الإسكندرية فيه ، وفيهما حجاج وتجار من المسلمين ، فسلكنا على قرى متصلة وضياع متجاورة ، وأبصرنا محارث ومزارع لم نر مثل تربتها طيبا وكرما واتساعا ، فشبهناها بقنبانية قرطبة ، أو هذه أطيب وأمتن.
وبتنا في الطريق ليلة واحدة في بلدة تعرف بعلقمة ، وهي كبيرة متسعة ، فيها السوق والمساجد ، وسكانها وسكان هذه الضياع التي في هذه الطريق كلها مسلمون ، وقمنا منها سحر يوم السبت الثالث والعشرين لهذا الشهر المبارك ، والتاسع والعشرين لدجنبر ، فاجتزنا بمقربة منها على حصن يعرف بحصن الحمة ، وهو بلد كبير فيه حمامات كثيرة ، وقد فجرها الله ينابيع في الأرض وأسالها عناصر لا يكاد البدن يحتملها لإفراط حرّها ، فأجزنا منها واحدة على الطريق ، فنزلنا إليها عن الدواب وأرحنا الأبدان بالاستحمام فيها. ووصلنا إلى أطرابنش عصر ذلك اليوم ، فنزلنا فيها في دار اكتريناها.
ذكر مدينة أطرابنش من جزيرة صقلية
أعادها الله
هي مدينة صغيرة الساحة ، غير كبيرة المساحة ، مسورة بيضاء كالحمامة ، مرساها من
__________________
(١) هو الأخطل كما يذكر أبو إسحاق البطليوسي ، والقصيدة غير موجودة في الموسوعة الشعرية.