غير أن الزمن عوّض عن فقد هذين الكتابين بمعجزة القرن الثاني ، بالخليل نفسه (ت حوالي ١٧٥ ه) بعد أن قضى من عمره شطرا يشافه الأعراب ويحفظ عنهم ، يعمل في ذلك فكره ، يستقرىء ويستنبط ، يقيس ويعلل .. دون أن يضع في ذلك كتابا ، غير أن ثمار قياسه ونظراته وتعليلاته آتت أكلها في كتاب تلميذه النابه سيبويه (ت حوالي ١٨٠ ه) الذي سار في لقاء أبناء البادية والأخذ عن فصائحها سيرة شيخه الخليل ، الذي كان «يحفظ نصف اللغة» (١) حتى قال المبرد : «إن المفتشين من أهل العربية ، ومن له المعرفة باللغة تتبعوا على سيبويه الأمثلة ، فلم يجدوه ترك من كلام العرب إلا ثلاثة أمثلة : منها الهند لع وهي بقلة ، والدّرداقس وهو عظم القفا ، وشمنصير وهو اسم أرض» (٢).
ثم عكف على وضع كتابه ، ملتزما مراجعة الخليل ، ينقل أقواله ، ويستضيء برأيه في كثير مما جاء في كتابه من مسائل النحو ، مما يطالع المتصفح لكتاب سيبويه من أمثال قوله : (وسألته) أو (قال) أو ما أشبه ذلك (٣).
وقد أحدث كتاب سيبويه منذ حياة صاحبه أوسع الأصداء ، وأقبل عليه المشتغلون في إكبار وتعظيم ، بما تميز به من أمانة في النقل ، وغزارة في المادة ، وتنوع في الأساليب الفصيحة .. في حسن تقليب لها ، ونظر فيها ، وموازنة بينها .. ثم من ذوق في الاختيار ، وتوخ للمعنى والتزام جانبه بقوة فيما يختاره ويأخذ به من وجوه ، بعيدا عن الأحكام المسبقة والقواعد المطلقة .. مما يفتح ذهن القارىء ، ويأخذ بيده ليشارك في استنباط هذه القواعد التي تهتدي في دروبها ـ بين
__________________
(١) أخبار النحويين البصريين ٤١
(٢) رسالة مخطوطة لأبي جعفر النحاس فيما يتعلق بالكتاب ٢ / أ. وانظر المنصف لابن جني (البابي الحلبي) ١ / ٣١ و «شمنصير» في القاموس (شمر) ٢ / ٦٤ جبل لهذيل.
(٣) أخبار النحويين البصريين ٣١