هذا الجم الغزير من الشواهد والنصوص ـ بالذوق ، ودقة النظر ، وحسن التمييز ، معتمدا في ذلك كله : نصوص القرآن الكريم ، وطرفا من الحديث الشريف ، والشعر العربي الموثوق به ، وما سمعه من كلام الأعراب وأقوالهم.
وهكذا نال هذا الكتاب في وقت مبكر أوسع ما يستحقه من اهتمام وإعجاب ، «حتى صار علما عند النحويين ، فكان يقال بالبصرة : قرأ فلان الكتاب ، فيعلم أنه كتاب سيبويه ، وقرأ نصف الكتاب ، فلا يشك أنه كتاب سيبويه» (١). وكان أبو عثمان المازني (ت ٢٤٨ ه) يقول : «من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد سيبويه فليستح» (٢).
وسمع غير واحد من الجرمي قوله : «أنا مذ ثلاثون سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه .. إذ كان كتاب سيبويه يستعلم منه النظر والقياس» (٣) ورأى فيه المبرد عملا كاملا متفردا في قوله : «لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه ، ذلك أن الكتب المصنفة في العلوم مضطرة إلى غيرها ، وكتاب سيبويه من فهمه لا يحتاج إلى غيره» (٤).
ولم يقتصر هذا الإدراك لأهمية «الكتاب» على علماء البصرة ، بل إن الكسائى رأس الكوفة (ت نحو ١٨٧ ه) وجد الفوز بأرومة هذا العلم أن يقرأ الكتاب ، إذ ورد للأخفش قوله : «جاءنا الكسائي إلى البصرة ، فسألني أن أقرأ عليه أو أقرته كتاب سيبويه ، ففعلت ، فوجه إليّ خمسين دينارا» (٥).
__________________
(١) أخبار النحويين البصريين ٣٩ وبغية الوعاة ١ / ٤٦٦
(٢) أخبار النحويين البصريين ٣٩
(٣) من رسالة أبي جعفر النحاس ١ / أ
(٤) المصدر السابق.
(٥) من رسالة أبي جعفر النحاس ٢ / ب والمبلغ عنده (مائتا دينار). وانظر كذلك : أخبار النحويين البصريين ص ٤٠