الجانب ، وتكرار الدعوة ، فعبّر عنهم نوح : ( وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢) ) (١) ، حتى ضاق بهم ذرعاً طيلة هذه المدّة الطويلة التي بلغت ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فما أجدى معهم الوعظ ولا الارشاد ولا حسن التأني الذي جبل عليه نوح عليهالسلام : ( فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (١٠) ) (٢) ، فأمره تعالى بصنع السفينة ، وضرب له موعداً فيها بمجيء الأمر لدى فوران التنور ، فكان ذلك علامة له ، وفيه توجيه وإخبار ، توجيه فيمن يحمل معه في السفينة ، وإخبار بهلاك الذين سبق عليهم القول ، قال تعالى : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (٢٧) ) (٣).
وكان صنع الفلك بعناية من الله ، وبمرئىً منه ، وفي ظل مراقبته القصوى ، ورعايته الالهية المعهودة مع الأنبياء ، وكان قومه يعجبون من هذا الصنع وبهذه السعة الكبيرة ، ويبدو أنهم بمنأى عن الحياة البحرية ، وإستقرارهم في مناخ بدوي لا يعدو القوافل الساذجة البدائية : ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (٣٨) ) (٤). ونفّذ نوح ما أوحى الله به إليه ، فأسلك فيها من كل زوجيْن إثنين ومعه القلّة من المؤمنين ، وأخبرهم بمصيرهم ، وهذا الأسلاك كما هو ظاهر القرآن ينبىء أن الطوفان شامل للكرة الأرضية آنذاك ، فأراد الله إستمرارية الحياة للكائنات ومسيرة الحضارة في الحياة ، ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت الحياة باقية في جزء من الأرض ، كما هي فانية في جزء آخر ، لهذا فذهب بأن الطوفان كان عالمياً ، وصدر الأمر الالهي الصّارم : ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى المَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) ) (٥).
__________________
(١) نوح : ٢٢.
(٢) القمر : ١٠.
(٣) المؤمنون : ٢٧.
(٤) هود : ٣٨.
(٥) القمر : ١١ ـ ١٢.