فيما نسب إليه « أنا أفصح العرب بيد أني من قريش » (١) فكانت هذه اللغة مصونة بالقرآن ، ومحفوظة به ، نتيجة تضافر جهود علماء العروبة والاسلام في نفي الشوائب ، ودرئ الأخطار حتى سلمت هذه اللغة من التدهور والانحطاط اللذين عرضا لجملة من لغات العالم ، وعلى العكس من ذلك فقد إرتفعت لغة القرآن عن مستوى الانصهار في غيرها من اللغات ، وإعتصمت بمخزونها عن الدخيل من الألفاظ ، وهي بين هذه وذاك تصارع حركات العامية ، وتدحض شُبه الانقضاض على التراث ، وتسمو عن مسيرة الإذابة بالرطانات الأعجمية واللهجات الاقليمية ، حتى كتب لها الخلود ببركة القرآن العظيم ، وظلت رمز الشموخ الوضاء.
لا أريد التوسع في هذا الملحظ ، ولا التأكيد على هذا الجانب ، فهما من البداهة بمكان ، بل أحاول الاشارة من خلال ثلاث ظواهر جديرة بلفت النظر العلمي ، كانت أساساً صلباً لحفاظ القرآن المجيد على أصالة العربية :
الظاهرة الأولى :
وتتجلى في تسيير القرآن الكريم لعلومه المثلى ، وفنون معارفه العليا ، مما أعطى ظاهرة ذات ذائقة جديدة ، ولجت أبواب الوعي العربي في التصنيف والتأليف والبحث الجدي والمتابعة الفذة من قبل فحول العلماء وعلية القوم ، وكان تفسير القرآن يمثل الشطر الاكبر من هذه الظاهرة ، فبدأت مصادره تتألق ، وموارده تتواكب ، فكانت مدرسة مكة المكرمة ، ومدرسة المدينة المنورة ، ومدرسة الكوفة في تفسير القرآن الكريم ، معلماً بارزاً من معالم رفد العربية بكل ما هو أصيل ومبتكر ، فكانت مدرسة مكة ، وهي أندر عطاء ، وأغلى قيمة ، تستمد قوامها من النبي وآله وأصحابه ، وكان قوامها النخبة الرائدة من أصحاب ابن عباس ( ت : ٦٨ ه ) وابن عباس نفسه ، ومولاه عكرمة ( ت : ١٠٤ ه ) ومجاهد بن جبر ( ت : ١٠٣ ه ) وأمثالهما من الرواد الأوائل
__________________
(١) ابن سنان الخفاجي ، سر الفصاحة : ٦٠.