والاستعارة مستقاة من تشبيهات القرآن ، وعمله هذا وإن كان مفرقاً ومجزءاً إلا أنه كان مناراً لمعالم الطريق.
حتى إذا جاء ابن قتيبة ( ت : ٢٧٦ ه ) وجدناه يؤكد دلائل مادة علمي المعاني والبيان في صدر كتابه « تأويل مشكل القرآن » مستنداً إلى التنظيرات البلاغية من القرآن في ضوء طرق القول ومأخذه عند العرب في الاستعارة والتمثيل والقلب التقديم والتأخير والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار والتعريض والافصاح والكناية والايضاح ، مما أورده مستنيراً بآيات القرآن ودلائله في أبواب المجاز (١).
وكان علي بن عيسى الرماني ( ت : ٣٨٦ ه ) في « النكت في إعجاز القرآن » وحمد بن سليمان الخطابي ( ت : ٣٨٨ ه ) في « بيان القرآن » وأبو هلال العسكري ( ت : ٣٩٥ ه ) في « الصناعتين » وأبو بكر الباقلاني ( ت : ٤٠٣ ه ) في « إعجاز القرآن » والسيد الشريف الرضي ( ت : ٤٠٦ ه ) في « تلخيص البيان في مجازات القرآن » قد استمدوا من كتاب العربية الأكبر روافد الاعجاز البياني ، وروائع الفن البلاغي ، فتلمس آثار قضايا الاعجاز ، وتلمح بصمات كتاب الله في ثنيات جوهر البلاغة وأساسها ، والتدوين المشترك بين أصول البلاغة وشواهد الآيات يعطيك نماذج التطبيق.
فإذا استقريت جهود عبد القاهر الجرجاني ( ت : ٤٧١ ه ) تجده بحقٍّ مؤسس الفن البلاغي ، ومشيد أركانه في ضوء القرآن العظيم ، فالفاحص لكتاب « دلائل الاعجاز » يلحظ مباحثه منصبَّة بسيولها المتشعبة حول علم المعاني بكل تفريعاته الجمالية والاسلوبية ، والمستقري لكتاب : « أسرار البلاغة » يجده متخصصاً بعلم البيان وصوره كافة ، باستثناء الكناية التي قدم عنها بحثاً مفصلاً في الدلائل.
إن الجزئيات التي أثارها عبد القاهر ، والأبواب التي أستوفى الحديث عنها ؛ تعدّ بحق الحجر التأسيسي لمفاهيم علم البلاغة مستمدة من القرآن ؛ في المستوى التطبيقي والنظري ، وهو بذلك الفكر المخطط الرائد لجملة هذه الأفكار ، والمنظّر المتمكن من هذا الفن.
__________________
(١) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : ١٥.