صفا ذهنك ، وزادت قريحتك ، وتنقحت قوافيك ، فلازمنا تخرّج الناس ، وتهب لهم الذكاء ، وتحوّل الكودن عتيقا والمحمّر (١) جوادا. ثم لا يصرفه عن مجلسه إلّا بجائزة سنيّة. وإنّما يفعل ذلك ليغايظ الجماعة من الشعراء والفضلاء ، لأنّهم يعلمون أنّ ذلك الرجل لا يزن بيتا ، ولا يعرض (٢) مصراعا ، ولا يذوق عروضا.
وقال يوما : من في الدار؟ فقيل : أبو القاسم الكاتب ، وابن ثابت ، فعمل في الحال بيتين وقال لإنسان بين يديه : إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل : قد قلت بيتين فإن رسمت لي إنشادهما أنشدت. وازعم أنّك بدهت بهما ، ولا تجزع من تأفيفي بك ، ولا تفزع لنكيري عليك. ودفع البيتين إليه ، وأمره بالخروج إلى الصحن. وأذن للرجلين حتى وصلا ، فلما جلسا وأنسا دخل الرجل ، وأخذ يتلمّظ يري أنّه يعرض شعرا ثم قال : يا مولانا قد حضرني بيتان فإن أذنت أنشدت ، قال : أنت أنشأت؟ أنت أخرق سفيه سخيف لا تقول شيئا فيه خير ، اكفني أمرك وشعرك. قال : يا مولاي هي بديهتي فإن كسرتني ظلمتني ، وعلى كلّ حال فاسمع ، فإن كانا بارعين (٣) وإلّا فعاملني بما تحب ، فالعبد عبدك والأمر أمرك. قال : أنت لجوج هات. فأنشد :
يا أيّها الصّاحب تاج العلى |
|
لا تجعلنّي نهزة الشّامت |
بملحد يكنى أبا قاسم |
|
ومجبر يعزى إلى ثابت |
فقال الصاحب : قاتلك الله لقد أحسنت وأنت مسيء ، قال أبو القاسم فكدت أتفقّأ غيظا لأني علمت أنّها من فعلاته المعروفة ، وكان ذلك الجاهل لا يعرض بيتا.
ولما توفي الصاحب رحمهالله تعالى رثاه أكثر شعراء عصره (ووقفت على
__________________
(١) الكودن : البرذون الهجين ، وقيل : البغل. العتيق : الفرس الرائع. المحمّر : الفرس الهجين.
(٢) يعرض : من العروض في أوزان الشعر ، ولعلها تصحيف (يقرض) من القريض.
(٣) كذا وردت الجملة في الأصول وهي ناقصة.