فضمن عنه حسن الأدب وإقامة شروط الخدمة. واستحضره فحضر ، وأعجب به وخلع عليه ، وحملت له صلة من ثياب ودراهم وغيرها ، ووضع بين يديه مائدة وواكله ، وأحضره في مجلس أنسه ، وهو في أثناء ذلك يأتي بالعظائم من الكذب فيصدّقه. إلى أن قال مرّة وقد أخذ الشراب من الفتى : إنّ لي عادة في كلّ سنة أن أطبخ قدرا كبيرا وقت ورود حاج خراسان أدعوهم وأطعمهم جميعهم من تلك القدر الواحدة. فتحيّر الفتى وقال : وأيّ شيء هي هذه القدر؟ بادية العرب ، دهناء بني تميم ، بحر القلزم؟ فغضب الأمير وأمر بتمزيق الخلع عليه ، وردّ الصلة إلى الخزانة ، وطرده في بعض اللّيل. وأقبل على النديم يعنّفه ويلومه. وعاد الفتى إلى باب النديم وبات عليه إلى أن أصبح ، وعاد الرجل إلى منزله فدخل عليه واعتذر بالسكر ، وضمن أن لا يعود لمثل ذلك. فاستوثق منه النديم ثم عاد إلى صاحبه وحسّن أمره وقال : أنّه كان بعيد عهد بالشراب فلم تتحمله قوّته ، وعمل النبيذ فيه عملا لم يشعر معه بشيء مما جرى ، وأنّه بكّر إليّ يزعم أن اللّصوص عند عوده إلى مبيته عارضوه وأرادوا أن يأخذوا منه صلة الأمير فمانعهم عن ذلك فمزّقوا عليه خلعة الأمير.
فرسم الأمير إعادته إلى المجلس ، وأضعف له في اليوم الثاني الجائزة ، وزاد في الخلعة والكرامة ، وجعل الفتى يتقرّب بأنواع التقرّب إليه ، وإذا كذب الأمير صدّقه وحلف عليه. إلى أن جرى ذكر الكلاب الزينيّة الصغار (١) فقال الأمير : قد كان عندي منها عدّة في غاية الصغر ، حتى أنّي كنت آمر بأن تلقى في المكحلة ، وكان لي مضحك أعبث به فآمر أن يكحل من تلك المكحلة إذا نام وسكر ، وكان إذا أصبح وأفاق من سكره يرى تلك الكلاب وهي تنبح في عينيه ، ولا يقدر عليها لصغرها. قال : فقام الفتى وخلع الثياب المخلوعة عليه ، وترك الجائزة وعدا عريانا وقال : لا صبر لي على كلاب تنبح في أجفان العين ، اعمل بي ما شئت وعاد إلى بغداد (٢).
__________________
(١) صنف من الكلاب ورد ذكره في الحيوان للجاحظ ١ / ٣١١.
(٢) للمؤلف أرجوزة طويلة في ديوانه الذي انتهيت من تحقيقه تبلغ ٦٩٣ بيتا سماها (نغمة الأغان في عشرة الاخوان) ضمّن أحد فصولها هذه الحكاية وجعل عنوانها