الأسواق وبينها وبين المحلة الكبيرة ثلاثة فراسخ ، وضبط اسمها بفتح السين المهمل والميم وتشديد النون وضمها وواو ودال مهمل ، ومن هذه المدينة ركبت النيل مصعدا إلى مصر ما بين مدائن وقرى منتظمة متصل بعضها ببعض ، ولا يفتقر راكب النيل إلى استصحاب الزاد لأنه مهما أراد النزول بالشاطئ نزل للوضوء والصلاة وشراء الزاد وغير ذلك ، والأسواق متصلة من مدينة الاسكندرية إلى مصر ومن مصر إلى مدينة أسوان (٧٧) من الصعيد.
ثم وصلت إلى مدينة مصر هي أم البلاد ، وقرارة فرعون ذي الأوتاد (٧٨) ، ذات الأقاليم العريضة ، والبلاد الأريضة المتناهية في كثرة العمارة ، المتباهية بالحسن والنضارة ، مجمع الوارد والصادر ، ومحط رحل الضعيف والقادر ، وبها ما شئت من عالم وجاهل وجادّ وهازل ، وحليم وسفيه ، ووضيع ونبيه ، وشريف ومشروف ، ومنكر ومعروف ، تموج موج البحر بسكانها ، وتكاد تضيق بهم ، على سعة مكانها وإمكانها (٧٩) ، شبابها يجدّ على طول العهد ، وكوكب تعديلها لا يبرح منزل السعد ، قهرت قاهرتها الامم ، وتملكت ملوكها نواصي العرب والعجم ، ولها خصوصية النيل التي جل خطرها ، واغناها عن ان يستمد القطر قطرها ، وأرضها مسيرة شهر لمجد السير ، كريمة التربة ، مؤنسة لذوي الغربة.
قال ابن جزي : وفيها يقول الشاعر :
لعمرك ما مصر بمصر وإنما |
|
هي الجنّة الدّنيا لمن يتبصّر |
فأولادها الولدان والحور عينها |
|
وروضتها الفردوس ، والنيل كوثر. |
وفيها يقول ناصر الدين بن ناهض :
شاطىء مصر جنّة |
|
ما مثلها من بلد |
لا سيما مذ زخرفت |
|
بنيلها المطرد |
وللرّياح فوقه |
|
سوابغ من زرد |
مسرودة ما مسّها |
|
داودها بمبرد |
سائلة هواؤها |
|
يرعد عاري الجسد |
والفلك كالافلاك بين |
|
حادر ومصعد |
__________________
(٧٧) ما تزال البلاد على ما كانت ، فلك في كل محطة ما تريد وما تشتهي!
(٧٨) فرعون ذو الأوتاد ـ يراجع تفسير السورة رقم ٣٨ ـ. د. بهاء الدين الوردي : حول رموز القرآن ج ١ دار الرشاد الحديثة ـ البيضاء ١٩٨٣ ص ٧٦.
(٧٩) يذكر فريسكوبالدي (FRESCOBALDI) ١٣٤٨ : أن أكثر من مائة ألف من الناس ينامون ليلا خارج القاهرة لعدم توفرهم على السكن ونذكر اليوم أن عدد سكانها يقدر باثني عشر مليونا!