ولا بد أن نستمع إلى الانتقاد المر الذي وجهه الرحالة العالم لخطيب البصرة الذي لم يحترم قواعد النحو التي إنما عرفت ازدهارها ورواجها بين البصرة والكوفة (١٦).
ولنتتبع زيارته لبغداد حيث نجده بالمدرسة المستنصرية يحضر مجالس الامام الشيخ أبي حفص القزويني الذي كان يتناول بالدرس مسند الدّارمي ... لقد كان حاضرا في مثل هذه المشاهد بذاكرته وبحسه يعترض على ما يسمعه أحيانا إذا لم يقتنع ، ويصحح ما يرى أن غيره جافى فيه الصواب.
وهو في بلاد فارس اغتنم الفرصة لاستجماع حصيلة كبرى من المعارف والاتصال بأكبر عدد من رجالات الحديث والفقه والتصوف. وقد كان يعرف كيف يتحبب الى الناس ويتقرب إليهم بما أوتيه ، هو نفسه ، من خصال العلماء وفضائل الفقهاء ... وهكذا وجدناه يضيف إلى إجازاته في دمشق إجازات أخرى من بعض رجال العلم والفضل في إصفهان.
أكثر من هذا ، استمعنا إليه يخبرنا عن تأليف له جديد ، غير هذه الرحلة ، وهو خبر طريف ، ويتعلق الأمر بتصنيف طلب منه أحد الملوك في آسيا الصغرى : سلطان بركي : أن يؤلفه له حول الحديث الشريف ...
وما من شك في أن المرء لا يجرؤ على حمل القلم للتدوين في موضوع كهذا دون أن يكون متوفرا على زاد من العلم كبير ...
وقد قرأنا بعضا من قصيدته اللّامية في مدح السلطان وهو بالهند :
فلو أن فوق الشمس للمجد رتبة |
|
لكنت لأعلاها إماما مؤهّلا |
فانت الامام الماجد الأوحد الذي |
|
سجاياه حتما أن يقول ويفعلا!! |
وكان مما يدل على مكانة الرجل العلمية ما كنا نتحسسه من خلال مذكراته مما كان يعبّر فعلا على أنه أطروفة من أطاريف الزمان وأنّه ليس إمّعة يردد ما قاله الآخرون دون تمحيص. ولأضرب مثلا بما ينقله أحيانا عن ابن جبير من معلومات ، فهو عند حديثه مثلا (١٠٢ ,I) عن فوائد مستغلات جامع دمشق في كلّ سنة ، يقدر ذلك بنحو خمسة وعشرين ألفا دينار ذهبي من سكة بني مرين ، وهكذا نجده يحول تقديرات ابن جبير البالغة خمسة عشر ألف دينار من سكة بني عبد المؤمن ... وقد فعل ذلك لتيويم المعلومات أي جعلها مواكبة لعصره ...
وهو إذ يستأنس بابن جبير أيضا ، نراه لا يردد ما أفاده سلفه من أن خطبة الجمعة تتضمن الدعاء للخليفة. وخلافا لذلك نجده يتحدث عن الدعاء لملك مصر لأنّ اليوم غير الأمس والحكام الحاليون ليسوا هم الحكام السابقين!!