بتقليد والده وأصحابه ، حتى أخذ فى التحقيق وجدّ واجتهد فى المذهب والخلاف ومجلس النظر ، حتى ظهرت نجابته ، ولاح على أيامه همّة أبيه وفراسته ، وسلك طريق المباحثة ، وجمع الطّرق بالمطالعة والمناظرة والمناقشة ، حتى أربى على المتقدّمين ، وأنسى تصرفات الأوّلين ، وسعى فى دين الله سعيا يبقى أثره إلى يوم الدّين.
ومن ابتداء أمره أنه لما توفّى أبوه كان سنّه دون العشرين أو قريبا منه ، فأقعد مكانه للتدريس ، فكان يقيم الرّسم فى درسه ، ويقوم منه ويخرج إلى مدرسة البيهقىّ ، حتى حصّل الأصول وأصول الفقه ، على الأستاذ الامام أبى القاسم الإسكاف الإسفراينى ، وكان يواظب على مجلسه ، وقد سمعته يقول فى أثناه كلامه : كنت علّقت عليه فى الأصول أجزاء معدودة ، وطالعت فى نفسى مائة مجلّدة.
وكان يصل الليل بالنهار فى التحصيل حتى فرغ منه ، ويبكّر كلّ يوم قبل الاشتغال بدرس نفسه إلى مجلس الأستاذ أبى عبد الله الخبّازى يقرأ عليه القرآن ، ويقتبس من كل نوع من العلوم ما يمكنه ، مع مواظبته على التدريس ، وينفق ما ورثه وما كان له من الدخل على [إجراء] المتفقّهة ، ويجتهد فى ذلك ويواظب على المناظرة ، إلى أن ظهر التعصّب بين الفريقين ، واضطربت الأحوال والأمور ، فاضطّر إلى السفر والخروج عن البلد ، فخرج مع المشايخ إلى العسكر ، وخرج إلى بغداد يطوف مع العسكر ، ويلتقى بالأكابر من العلماء ويدارسهم ويناظرهم ، حتى تهذّب فى النظر ، وشاع ذكره.
ثم خرج إلى الحجاز ، وجاور بمكة أربع سنين يدرّس ويفتى ، ويجمع طرق المذهب ، ويقبل على التحصيل ، إلى أن اتفق رجوعه بعد مضىّ نوبة التعصّب ، فعاد إلى نيسابور ، وقد ظهرت نوبة ولاية السلطان ألب أرسلان ، وتزيّن وجه الملك بإشارة نظام الملك ، واستقرّت أمور الفريقين ، وانقطع التعصّب ، فعاد إلى التدريس ، وكان بالغا فى العلم نهايته ، مستجمعا أسبابه ، فبنيت المدرسة الميمونة النّظاميّة ، وأقعد للتدريس فيها ، واستقامت أمور الطلبة.
وبقى على ذلك قريبا من ثلاثين سنة ، غير مزاحم ولا مدافع ، مسلّم له المحراب والمنبر والخطابة والتدريس ومجلس التذكير يوم الجمعة والمناظرة ، وهجرت له المجالس ، وانغمر غيره من الفقهاء بعلمه وتسلّطه ، وكسدت الأسواق جنبه ، ونفق سوق المحقّقين من خواصّه وتلامذته ، وظهرت تصانيفه ، وحضر درسه الأكابر والجمّ العظيم من الطلبة ، وكان يقعد بين يديه كلّ يوم نحو من ثلاثمائة رجل من الأئمة ومن الطلبة.