الحاليون لمسقط رأسهم إلا قبل رحلتى لهذه الأنحاء ببضعة شهور ، فبدأوا يزرعون الأرض عقب انحسار مياه الفيضان ، ولكن كثيرين من بنى جلدتهم ما زالوا مقيمين بمصر. ولعل فى وفرة القبور الجديدة على مقربة من قرى الإقليم أصدق دليل على صحة الروايات المفجعة التى قصها الأهالى علىّ.
وبعد ست ساعات بلغت وادى كشتمنة وهى قرية جيدة المبانى وفيها اشتبك المماليك مع جيوش ابراهيم بك فى معركة انتهت باندحار المماليك ، فتقهقروا للجبال الشرقية واعتصموا فيها شهورا حتى رجع أعداؤهم لأسوان. وهبط معظم البكوات إلى ضفاف النيل فى مايو ١٨١٢ ، وكان منسوب الماء فى النهر منخفضا جدا ، فاجتازوه عند مخاضة قريبة من كشتمنة (١) ، ومعهم نساؤهم ومتاعهم. وواصل فريق من المماليك السير جنوبا على ضفة النهر الغربية وهم ينهبون القرى التى مروا بها ـ الدر ووادى حلفا وسكوت والمحس. أما الأمراء من البكوات فقد اصطحبوا مماليكهم ، واتخذوا أقصر الطرق عبر الصحراء الغربية. والتأم شمل الجميع ثانية على ضفاف النيل قرب أرقو وهى من أهم القرى الداخلة فى أملاك ملك دنقلة (٢). وبلغ عددهم جميعا نحو ثلاثمائة من المماليك البيض ، ومثلهم من العبيد المسلحين ، أولئك هم البقية البائسة التى تخلفت من نيف وأربعة آلاف رجل ، وهو عددهم يوم بدأ محمد نضاله معهم فى سبيل السيادة على مصر. ولا حاجة بى لتكرار القصة المعروفة ، فقد دبح منهم فى القامة ألفا ومائتين على رأسهم زعيمهم شاهين بك مع أنه أمنهم على حياتهم بأغلظ العهود والمواثيق. ولكن هناك مذبحة أخرى شبيهة بهذه وإن تكن أقل منها شهرة وقعت فى إسنا ، ولا بأس بذكرها هنا دليلا على غفلة المماليك وفساد مشورتهم. فقد اعتصم هؤلاء الفرسان الأشداء بالجبال التى يسكنها عرب العبابدة والبشارية ، ونفقت خيلهم جوعا ،
__________________
(١) ليس للنهر مخاضة إلا هذه فيما أعلم.
(٢) وصل أخيرا إلى القاهرة اسكتلندى كان قد أسر فى حادث رشيد المشؤوم (١٨٠٧) وانضم بعد ذلك إلى المماليك. ثم تركهم فى دنقلة وعاد وحده مجتازا النوبة والصعيد على الرغم من جواسيس الباشا.