يحفلوا بى وضحكوا منى قائلين إن هذا الثمن الذى عرضته باهظ حقا ، ولكن أحدا منهم لن يفرط فى مائه ، وأنهم لم يألفوا هذا التفريط من قبل. فلم يكن لى مندوحة عن مبارحة البئر والأسى يملأ قلبى ، لأن مئونتى من الماء لن تكفينى أنا وحمارى إلا يومين على أكثر تقدير. ويجدر بى أن أذكر بهذه المناسبة أنه لا يجدى المسافر فى الصحراء أن يحمل من الماء القدر الموفور ، لأن رفاقه سيأخذونه منه عنوة واقتدارا إذا نفد ماؤهم ، فالقاعدة التى يجرون عليها هى أن الخبز والماء مشاعان للجميع ، أى أن القوى يغصبهما من الضعيف. وعرب الصحارى الشرقية يسمحون للفقراء من المسافرين أن يقاسموهم ماءهم مهما كان قليلا ، ولكنك لا تجد هذا الكرم عند الإفريقيين ، وقصارى ما يستطيع المسافر معهم أن يفعله هو أن يتزوّد من الماء بما يكفيه الفترة التى يكفى كبار التجار فيها ماؤهم ، فإن أحدا منهم لن يسعفه بالماء ، أما هو فمضطر للنزول عن كل ما يفضل عن حاجته منه ، بل أحيانا عن كل مئونته ليسدّ حاجة رفاقه الأشداء. وتطلعت حول البئر علّى أجد معالم بناء قديم ظنا منى بأن هذا الموضع كان معروفا مطروقا أيام ازدهار تجارة مروى كما هو شأنه اليوم ، ولكنى لم أجد أثرا لبناء ، ومع ذلك فإن الموقع كان يصلح لأن تشاد عليه قلعة. والطريق المؤدى للكهف الذى فيه البئر تكاد تسده الكتل الضخمة من الحجر ، وعلى مقربة منه عين أخرى سقط فوقها مؤخرا نتوء فى الجبل فطمرها.
ولما علم رئيس القافلة ـ وهو شيخ من العبابدة ـ بما أصابنى من ضر أرسل إلىّ ونحن نهم بالرحيل ، وبعد أن أنحى باللائمة على قسوة المصريين فى معاملتى أهدانى قدرا من الماء يملأ قربة من القرب الصغيرة. وقد شكرت له بالطبع صنيعه وأثنيت عليه ثناء صادقا ، وإن تبينت أن رغبته فى الزراية بالمصريين كانت أشد من غيرته على مصلحتى. وبارحنا شقرة فى الضحى ، وقضينا أربع ساعات نطوى سلسلة جبال شقرة وقد بدت لى أعلى جبال النوبة القريبة ، على أن أعلى قممها لا يزيد ارتفاعها عن السهل على ثمانمائة قدم أو ألف. والجبال كلها من الجرانيت ، وهى فى كل أرجائها وعرة مهشمة كالجبال المحيطة بالعين. وبعد أربع