ويقتنى فقهاء الدامر من الكتب الشىء الكثير ، ولكنها لا تتناول من المواضيع غير الدين والشريعة. ورأيت فيما رأيت نسخة من القرآن لا يقل ثمنها عن أربعمائة قرش ، ونسخة كاملة من تفسير البخارى تساوى ضعف هذا المبلغ فى مكتبات القاهرة. وقد جلب هذه الكتب من القاهرة الشباب من فقهاء الدامر أنفسهم ، فكثير منهم يجاور فى الأزهر الشريف أو فى المسجد الحرام بمكة ، ويظلون سنوات ثلاثا أو أربعا يعيشون على الصدقات والجرايات. فإذا عادوا إلى الدامر علموا الطلبة تلاوة القرآن وأعطوهم دروسا فى التفسير والتوحيد. ولهم جامع كبير حسن البناء ولكنه بلا مئذنة ، وتسنده عقود من الآجر وأرضه مفروشة بالرمل الناعم. وجو الجامع ألطف أجواء المدينة وأرطبها إليه ، وإليه يأوى الغرباء للتقيل بعد صلاة الظهر. ويلحق بالجامع مكان مكشوف تحيط به حجرات الدرس. ولكثير من الفقهاء زوايا صغيرة إلى جانب بيوتهم ، ولكنهم لا يصلون فريضة الجمعة إلا فى الجامع الكبير. ويحيط كبار الفقهاء أنفسهم بمظاهر الورع والتقوى ، ويعيش الفقى الكبير عيشة العابد المتقشف ، فهو يسكن بناء صغيرا يقوم وسط ميدان كبير من ميادين البلدة ، وقسم من البناء مصلى والقسم الآخر حجرة مساحتها نحو اثنى عشر قدما يقيم فيها ليل نهار لا يبرحها ، بعيدا عن أسرته ، وحيدا لا خدم معه ولا أتباع. وهو يعيش على ما يرسله له أصدقاؤه أو أتباعه من فطور وعشاء. فإذا كانت الساعة الثالثة عصرا بارح حجرته بعد اعتكافه سحابة نهاره للقراءة والدرس ، ثم اتخذ مجلسه على مصطبة من الحجر أمام داره ، وألم به إخوانه وأتباعه ، فجعل يصرّف أعماله حتى الغروب بل بعده. وذهبت مرة لأقبل يده فراعنى منه محيا وقور وطلعة جليلة ، وكان يلتف بعباءة بيضاء تغطيه كله ، وسألنى من أين أنا آت ، وفى أى مدرسة تعلمت القراءة ، وأى كتب قرأت؟ وبدا لى أنه اقتنع بجوابى عن أسئلته. وكان يجلس إلى جواره شيخ مغربى من مكناس قدم من مكة ليشتغل له كاتبا ، ويصرف له كل أعماله الرسمية. وذكروا لى أن هذا المغربى استطاع أن يجمع من وظيفته مالا طائلا.