ثم قادنى لبيت وجدت فيه حشدا من الناس يحيون ذكرى قريب لهم مات حديثا ، وكان هناك عدد من الفقهاء يقرءون القرآن فى صوت خافت. ثم أقبل فقيه كبير فكان ذلك مؤذنا لهم بترتيل القرآن ترتيلا عاليا على نحو ما يفعل المقرئون فى الشرق. وقد شاركتهم هذا الترتيل ، ومضينا فيه زهاء نصف الساعة حتى جىء لنا بالغداء ، وكان موفورا لأن القوم نحروا بقرة لهذه المناسبة. واستأنفنا التلاوة بعد أكلة شهية ، وأخرج شيخ منهم سلة ملئت بالحصى الأبيض فقرئت عليها الأوراد. وينثر هذا الحصى على قبر الميت كما رأيت على كثير من القبور الجديدة ، وقد استفسرت من الشيخ عن هذه العادة التى لم أرها تمارس فى أى بلد إسلامى آخر ، فقال إنها لا تعدو أن تكون عملا طيبا مشكورا ، وإنها ليست فرضا محتوما ، إنما يعتقد القوم أن روح الميت إذا زارت قبره سرها أن تجد هذا الحصى فتستخدمه مسبحة تسبح عليها الخالق الصمد. ولما فرغنا من التلاوة بدأ النسوة يولولن ويعددن مناقب الفقيد. وهنا بارحت الحجرة ، وفيما أنا أستأذن رب البيت الكريم فى الرحيل نفحنى ببعض ضلوع من اللحم المشوى لعشائى.
ويزين نساء الدامر غرف جلوسهن بعدد كبير من الصحون الخشبية الواسعة يعلقنها على الجدران فتبدو كأنها الصور الكثيرة ، أما الأرض فيغطينها بالحصر الجميلة مختلفة الرسوم والألوان ، ولا غرو فالقوم خبيرون بصبغ خوص الدوم. كذلك رأيت بيض نعام وريش نعام أسود معلقا على الحائط فوق الباب للزينة.
وعلى ضفة النيل الغربية تجاه الدامر قرية صغيرة تدعى الدامر غرب ، وتصلهما معدية بدائية الصنع هى جذع شجرة نبق منقور.
وتلقى الزراعة فى الدامر من العناية ما لا تلقاه فى أى بلد آخر من دنقلة إلى شندى. فيروى الفلاحون الأرض ريا صناعيا بالسواقى على أعناق البقر كما يفعل أهل مصر ، ويحصلون بذلك على محصولين فى السنة ، ولم تقاس الدامر من أهوال المجاعة ما قاسته جاراتها ، ولكن الجدرى فتك بأهلها فتكا ذريعا. وأهم محاصيلها الذرة ، ويزرعون بعض القمح ولكنهم لا يصدرونه ، إنما يأكله كبار الفقهاء الذين تعلموا هذا الترف فى أثناء مقامهم بمصر. كذلك تزرع البامية والمقادير الكبيرة