هذا الجواب ما يجرح كبرياءه ، فأهوى على كتفى بضربة من عصاه كادت تصرعنى ، وسدد إلىّ ثانية صددتها ببندقيتى ، وهممت بضربه بمؤخرها لو لا أن أصحابنا حالوا بيننا وانتزعوا السلاح من يدى. وقد اغتبطت بما فعلوا حين فكرت فى الأمر مليا ، فلو أننى ضربت الرجل لأصبته بجرح ولاستفحل الأمر. لذلك اكتفيت بقذفه بوابل من الشتائم تنفيسا لغضبى ، وأنحى عليه الجميع باللائمة ، لا سيما العبابدة الذين جهروا بأنهم لن يسكتوا على أى إهانة توجه إلىّ بعد الآن. ولم أستطع أن أدون فى هذه المرحلة ما درجت على تدوينه من مذاكرات ضافية وافية ، وذلك لاشتباكى فى هذه المشاجرة ولعدم إمكانى اعتزال الركب خشية أن يهاجمنى اللصوص. وبعد أن بارحنا الدامر دخلنا حرجا من شجر السلم ومضينا فى طريق غير بعيد من الأرض الزراعية. وشهدنا على مقربة من النهر عددا من القرى والنزلات منبثة بين أحراج الدوم ، ويسكن هذه القرى عرب المكابراب ، وكانوا يخضعون لأمراء شندى ، ولكنهم استقلوا عنهم منذ زمن طويل ، وهم اليوم يعيشون من محصول أرضهم ومن السرقة. والحرب قائمة بينهم وبين جيرانهم أجمعين ، ويخشى هؤلاء الجيران بأسهم الشديد وما اشتهروا به من بسالة عظيمة ، ولا ينجو المسافرون من سطوهم ما لم يرافقهم فقيه أو أكثر من فقهاء الدامر.
وتركنا النيل بعد الدامر بست ساعات شاقين لنا طريقا قصيرا عبر التلال ، فبلغنا حوابة بعد تسع ساعات ، وهذه القرية هى اليوم الحد الشمالى لإقليم شندى. وتمتد حدود شندى قانونا إلى نهر مقرن ، فتدخل فى نطاقها الدامر ، ولكن فقهاء الدامر كما مربنا مستقلون. ونعمنا بأمسية بديعة بعد نهار شديد القيظ ، ومضينا جميعا إلى النهر نسبح فيه ، وقد وجدت الحصى يكسو قاعة قرب الشاطىء. وكان مضربنا فى ساحة مكشوفة وسط القرية ، وقيل لى إن القرية مأمونة ، فأخذت بعض المسابح لأقايض عليها بالخبز. وطوفت فيها دون أن ألقى توفيقا ، حتى لقينى رجال فدعونى لبيتهم زاعمين أن نساءهم سيبتعن المسابح. فمضيت معهم حتى بلغنا زقاقا ضيقا مهجورا ، وإذا هم ينقضون علىّ ويختطفون مسابحى وعمامتى ، ولما رأونى ما زلت أقاومهم