رحلت فيها من دراو عدد من الغلمان ـ لم يكد الغلام منهم يبلغ العاشرة ـ يصحبون آباءهم ، ومتى بدأ أحدهم هذه التجارة مرة ألف الخروج بعدها كل سنة فى رحلتين على الأقل حتى تتقدم به السن. وقد رأيت فى دراو أفرادا كانوا يباهون بأن أجداد أجدادهم كانوا تجارا فى قوافل سنار.
ويشتهر تجار دارفور فى القاهرة بأنهم أسخى فى الدفع من تجار طريق القوافل الشرقية ، وهم يودعون فى تجارتهم رأسمال أكبر ويؤتمنون على قروص أوفر لا سيما فى أسيوط حيث يبتاع الكثير منهم بضاعتهم. ومن اليسير على القارىء إذا راجع ما ذكرت عن أثمان السلع المختلفة أن يدرك أن أرباح المصريين من وراء هذه التجارة باهظة ، والواقع أنه ما من سلعة مصنوعة فى مصر أو أوربا إلا وتباع فى شندى بضعفى ثمنها الأصلى فى مصر أو بثلاثة أضعافه ، وكذلك تبلغ نسبة الربح فى حاصلات الجنوب حين تباع بمصر. نعم إن العقبات التى تعترض سبيل التجارة ثقيلة مرهقة ، فمن جشع الأمراء الذين تمر القوافل بأملاكهم ، إلى نفقات النقل بالصحراء ، إلى تكاليف إطعام العبيد ، إلى إتاوة العبابدة وما يفرضه باشا مصر (١) من مكوس على التجارة ، ولكن أرباحها برغم كل ذلك عالية جدا ، ولست أشك فى أن مجموعة طيبة من السلع تشحن من دراو إلى شندى تغل من الربح الصافى ـ بعد بيع البضاعة المجلوبة فى العودة بدراو ـ ما نسبته ١٥٠% على أيسر تقدير. بل إننى سمعت أن الزاملة من السنبل والمحلب غلت فى القاهرة فائدة قدرها ٥٠٠% بعد المقايضة عليها بالرقيق فى سوق شندى. ولقد وجد التجار المصريون مؤخرا أن الريالات أربح السلع الأوربية لهم لأنهم يستطيعون أن يشتروا بها توا ما شاءوا من إبل. على أن هذا الإيثار للريالات رهن باستمرار التهافت على الإبل فى مصر لاستخدامها فى النقل من قنا إلى القصير وفى تموين الجيش التركى بالحجاز.
وقلّ من أغنياء التجار فى مصر من رحل إلى شندى برأس مال كبير ، ومن
__________________
(*) تفرض الحكومة اليوم ضريبة قدرها ستون قرشا على كل عبد يجلب لصعيد مصر. ويحتكر الباشا شراء أهم السلع كالرقيق والعرديب وريش النعام والنطرون (من دارفور) ، فهو يدفع فيها لتجار السودان ثمنا حدد أقصاه ، ثم يبيعها على هواه بربح باهظ.