لا يجهل ما يلحقه بصحة العبد من أذى إذا هو حاول منعه من الهروب بحبسه والتضييق عليه ، لأن للعبيد الجدد غراما بالخلاء ، وهم لا يدخلون البيوت إلا كارهين ، فهى السجون بعينها فى نظرهم. ولكنهم ما إن يدخلوا الصحراء ـ فى طريقهم إلى نهاية الرحلة ـ حتى يتنكر لهم سادتهم وبرخوا العنان لشراستهم وتوحشهم ، لأنهم يعرفون أن العبيد سدت دونهم سبل الهروب. وطالما سمعت رفاقى بشندى ـ وهم على فظاظتهم لم يكونوا أحط طبقات الجلابة ولا أسفلها ـ يحدث بعضهم بعضا إذا أساء عبد من العبيد أدبه وخافوا مغبة عقابه ، فيقولون : صبرا حتى يجتاز بربر ، وبعدها يعلمه الكرباج الطاعة والامتثال. وقد رأيت مثل هذه القسوة فى التجار السواكنية الذين سافرت فى قوافلهم بعد ذلك ، فهم يتنكرون للعبيد إذا اجتازوا التاكة. على أن صحة العبد هى على الدوام محل عناية الجلاب ، فالعبد يصيب طعامه بانتظام ، ويأخذ حظه من الماء خلال الرحلة مع سيده. كذلك يسمح لصغار الفتيات ونحافهن بركوب الإبل فى حين يقطع الباقون الرحلة راجلين ، سواء كانت وجهتهم مصر أو سواكن ، كما قطعوها من دارفور إلى شندى. وقد رأيت فى صغار العبيد من شدة البدن وصلابة العود عجبا. كنت أجدهم ، بعد مسيرة أيام متوالية بمعدل عشر ساعات إلى اثنتى عشرة ساعة فى اليوم ، يلعبون ويمرحون عقب العشاء كأنهم قد نعموا براحة طويلة. وتحمل النساء الأطفال على ظهورهن ماشيات خلف القافلة. وإذا أعيا جمل حمّل الجلاب العبيد حمله ، ويكفى الغلام شىء من السمن يصيبه فى العشاء مع خبز الذرة وقليل من الشحم يلطخ به جسده وشعره كل يومين أو ثلاثة ، فلا يشكو قط تعبا ولا نصبا. وثمت دافع آخر يحفز الجلابة إلى الترفق بالعبيد ، وأعنى رغبتهم الشديدة فى محو ما علق بأذهان الزنوج أجمعين من خوف وفزع مبعثهما مصر وسائر بلاد البيض. فالفكرة السائدة فى بلاد الزنج هى أن «ولد الريف (١)» (أى المصريين) يأكلون العبيد ، وإن هؤلاء يجلبون إلى مصر لهذا
__________________
(*) الريف هو اللفظ الذى يطلقونه فى هذه البلاد على مصر ، ومعناه الأرض المنخفضة الكثيرة المياه.