الغرض (١). لذلك لا يدخر الجلابة جهدا فى محو هذه الفكرة والقضاء عليها ، ولكنهم برغم ذلك لا يفلحون فى اقتلاعها من رءوس العبيد. وشىء آخر يفزع منه العبيد هو حيوان ضئيل وثاب يزعمون لهم أنه سيعيش على جلودهم ويمتص دماءهم ولا يدعهم ينعمون بالراحة ولو لحظة واحدة. وهم يعنون البراغيث ، وهى حشرات لا عهد للقوم فى قلب السودان بها ، ويروون عنها أغرب الروايات حين يحصون الفضائل التى تميزت بها بلادهم على أرض مصر. غير أن بلادهم تحفل بحشرات أخبث من البراغيث وأشنع. وأخوف ما يخافه الغلمان أيضا أن يطوّشوا فى مصر حين يبلغونها.
وللغلمان العبيد مطلق الحرية فى نطاق حيشان البيوت ، أما الكبار ممن لا يطمئن سادتهم إلى طباعهم أو ممن يجهلون أخلاقهم فيحبسون ويراقبون بل ويوثقون بالأغلال فى كثير من الأحيان. ويربط العبد فى أثناء الرحلة إلى قائمة طويلة يشد أحد طرفيها إلى رحل الجمل ويحيط طرفها الثانى ـ وهو على شكل شوكة ـ بعنقه من الجنبين ويربط خلفه بحبل متين يمنعه من إخراج رأسه من محبسه. ثم تشد يمناه إلى القائمة على مقربة من رأسه ، فلا يبقى طليقا من العبد غير ساقيه ويسراه. ويمشى خلف الجمل على هذا النحو سحابة يومه ، أما الليل فيقضى سواده راسفا فى الأغلال بعد أن يفك من القائمة. وقد رأيت فى رحلتى إلى سواكن عبيدا كثيرين يساقون على هذا النحو ، وكان الجلابة يخشون أن يهربوا أو أن يثأروا لأنفسهم منهم. وهكذا يظل العبد حبيسا مغلولا حتى يشتريه سيد ليقتنيه ، فيترفق به اجتلابا لمحبته وولائه ويخشى الجلابة على العموم مغبة غضب العبيد وسخطهم ، وإذا أراد أحدهم أن يجلد فتى منهم وضع الأغلال فى يديه ورجليه أولا.
__________________
(*) حين كنت بصعيد مصر حدث حادث غريب أسوقه دليلا على تسلط هذه الفكرة على عقول السود. ذلك أن رجلا من علية القوم اشترى بأسيوط فتاتين من قافلة دارفورية ، ثم دعا نفرا من أصحابه ليقضوا معه عصر يوم فى مغارة لطيفة الجو من مغارات الجبل الواقع خلف أسيوط. وأمر الرجل الفتاتين أن تصحباه ، ولكن ما إن دخلتا المغارة حتى توهمتا أنها المكان المعد لذبحهما. ولما رأتا المدى التى جىء بها لتقطيع اللحم الذى سيأكله القوم حاولت إحداهما الفرار فأطلقت ساقيها للريح ، ووقعت أختها على الأرض تضرع إليهم ألا يذبحوها. واقتضى إقناع الفتاتين بفساد هذه المخاوف وقتا غير قليل.