فلم أر عندهم من الآلات غير «الطمبورة» ، وغير ضرب من المزمار مصنوع من ساق الذرة الأجوف ينبعث منه صوت حزين كئيب ، هذا بالإضافة إلى «النقارة» ويخيل إلى أن هذه النقارة لازمة من لوازم الإمارة فى السودان طولا وعرضا ، فهم إذا أرادوا وصف رجل من ذوى السلطان قالوا إن النقارة تقرع أمام بيته ، وفى شندى كانت تدق النقارات أمام بيت المك كل عصر بانتظام. ومن الألعاب التى يؤثرها عرب السودان «السيجة» ، وهى ضرب من الداما يعرفه عرب الصعيد أيضا ، ويلعبونه على الرمل فيخطون رقعة ذات تسعة وأربعين مربعا ، ويختار أحد اللاعبين «كلابه» من كرات من روث الجمال يلتقطها من الطريق ، ويلعب غريمه بكرات من روث الماعز. واللعبة معقدة تتطلب من لاعبها يقظة وانتباها ، وهم اللاعب فيها أن يأكل كلاب غريمه ، ولكن قواعدها تختلف عن قواعد الداما البولندية اختلافا كبيرا. وللقوم بها ولع كبير ، وقلّ أن يقعد شخصان معا دون أن يشرعا من فورهما فى خط رقعة السيجة على الرمل. ولا يجد المك نفسه غضاضة فى ملاعبة أحقر الخدم إذا أثر عنه حذقه اللعبة. ولا يستاء لاعب إن أعان غريمه متفرج من بين الواقفين بمشورة أو رأى. وقد يلعب بعضهم على قرعة بوظة ، ولكن هذا قليل. ولا يجهل القوم الشطرنج ، ولكنى لم أصادف منهم من يلعبه.
ولم يقع لى إبان مكثى بشندى ما ينغصنى أو يكدر صفوى. صحيح أن العبابدة الذين ساكنتهم لم يبدوا نحوى كبير عطف أو مودة ، ولكنهم كذلك لم يسيئوا إلى أو يغلظوا لى القول ، وهذا قصارى ما كنت أطمع فيه. وكان وجودى فى صحبتهم حمى لى وسترا لأننى سرعان ما اشتهرت فى المدينة كلها ، فحرصت على إعلام القوم بأننى أنتمى للأدلاء العبابدة وجماعتهم المبجلة. وغصّ البيت والحوش بالعبيد والجمال ، فقسمنا أنفسنا جماعات يشترك أفراد كل منها فى الطعام ، وكان كل منا يؤدى نصيبه اليومى من الذرة للجوارى اللاتى يقمن بطهو الطعام ، وكانت نفقاتنا جميعها تؤدى ذرة. ودأب بعض الرفاق على الاجتماع لتعاطى البوظة ليلا ، أما النهار فكانوا ينفقونه فى البيع والشراء. وكنت تواقا إلى استرضاء العبابدة ،