قد طوف فى كثير من أنحاء تركيا تاجرا للرقيق ، ونزل القسطنطينية وعاش بدمشق طويلا (وفى دمشق يشتغل التكارنة فعلة فى بساتين سراة القوم) ، وأدى فريضة الحج ثلاث مرات ، ثم استقر أخيرا بكردفان وانقطع للتجارة فيما بين كردفان وجدة. وقد ذاع صيته بفضل أسفاره وما يتظاهر به من تقى وورع ، لذلك أحسن الملوك والرؤساء لقاءه ، ولم يكن يفوته أن يتحفهم بالهدايا الصغيرة يجلبها لهم من جدة. وهو على إدمانه قراءة القرآن ـ سواء جالسا تحت مظلة مؤقتة من الحصير أو راكبا على جمله فى الطريق ـ رجل شهوان مبطان لاهم له إلا متعة الجسد ونعيم الحياة الدنيا ؛ فهو ينفق على لذاته كل ما يغلّه رأس ماله البسيط من ربح متجدد بتجدد أسفاره. كان يصحب معه جارية من برقو يؤثرها على سواها ويتخذها من دونهن محظية له ، وقد عاشت معه ثلاث سنوات ، وكانت تركب جملها على حين يسير غيرها من الجوارى على الأقدام طوال الطريق (١). أما جربانه الجلدية فقد حفلت بأشهى وأطيب ما حوت سوق شندى ولا سيما السكر والتمر ، وأما مائدته فأفخر موائد القافلة إطلاقا. وقد تسمعه يفيض فى الحديث عن الفضيلة والدين فتخاله لا يعرف عن الرذيلة إلا اسمها ، ومع ذلك فهذا الحاج على الذى أنفق نصف عمره فى التهجد والعبادة .. هذا الحاج نفسه باع فى العام الماضى بنت عمه فى سوق الرقيق بالمدينة المنورة بعد زواجه منها بمكة. وكانت الفتاة قد وفدت عليها حاجة من برنو بطريق القاهرة فلقيها على غير انتظار وطلب يدها بوصفه ابن عمها ، وتزوجها (٢) ، ثم احتاج إلى شىء من المال فى المدينة فباعها إلى الجلابة المصريين ، ولم تستطع المسكينة أن تقيم الدليل على أنها حرة الأصل فأذعنت لقضاء الله وقدره. وكان القوم فى القافلة يعلمون من أمره هذا ، ولكن علمهم به لم ينل شيئا من قدره وسمعته بينهم.
كان التكارنة يعاملوننى كما يعاملون أى مسافر غيرى وكما جرى القوم على معاملة المسافرين ؛ فكل مسافر مشغول بتوفير أسباب راحته ، اللهم إلا أن يمد
__________________
(١) كان لنفر من التجار السواكنية خليلات ، وهم فى العادة يصطحبونهم فى أسفارهم.
(٢) ابن العم فى جميع الأقطار الإسلامية مقدم على غيره إذا طلب يد ابنة عمه.