من كل صوب فيبعث مرآها النشوة حتى فى أفئدة الجلابة القاسية. قال أحدهم مشيرا إلى المفازة الجرداء التى قطعناها «بعد الموت الجنة». ومشينا نحو ربع الساعة بين أشجار فارعة اشتبكت أحمالنا بأغصانها فكنا نخلصها معها بصعوبة. ورأيت من التنوع الكثير فى نبات هذا الإقليم ما لم أره فى أى مكان على ضفاف النيل بمصر ، فكانت هناك صنوف مختلفة من المموزا ، ودوم ضخم أسالت عناقيده الفاخرة لعاب العبيد ، وأشجار من النبق ناضجة الثمار ، ثم اللالوب وهى فى حجم النبق ، فضلا عن كثير من الأنواع التى لا عهد لى بها. وإلى هذا كله عشب برى موفور ينمو فوق تربة خصبة غنية كتربة مصر. وتأوى إلى الشجر أسراب كثيرة من الطير تصدح بالغناء الذى يندر أن يسمعه المسافرون فى مصر. ولم تكن الطيور غنية بالألوان بل طيورا صغيرة من فصائل مختلفة ، وقد راقتنى منها أنغام لم تطرق أذنى من قبل ، ولم ينقطع من أذنى هديل الحمائم الرقيق طوال سيرى. وانطلقنا صوب النهر وهبطنا ضفافه الواطئة فى لهفة لنروى من مائه غليلنا ، وقطعت بعض الجمال مقاودها حالما وقع بصرها على الماء وألقت أحمالها عنها وهى تندفع أو تتعثر فوق الشاطىء فأحدثت كثيرا من الجلبة والفوضى.
لم يطل مكثنا بالمكان ، فاستأنفنا المسير نحو ساعة على ضفة النهر ، وكان أكثر سيرنا بين نخل يحف أطراف الصحراء ، وهو أكبر من أى نخل رأيته بمصر. وبعد ساعة عبرنا النهر خوضا فى غير مشقة إذ لم يكد ماؤه يجاوز ركب الجمال ، ولم يمض نصف ساعة حتى جئنا قرية عطبرة ، ويسمونها كذلك لقربها من النهر. وكان مقررا أن تظل القافلة أياما هنا ، لذلك اهتم كل منا قبل كل شىء باختيار مكان ملائم ينزل به. أما التجار السواكنية فنزلوا ساحة مكشوفة أمام القرية وقسموا أنفسهم فرقا وجماعات ، وأما أنا والتكارنة فحططنا بأرض من الأشجار الشائكة فى جنب من القرية ، ومهد كل منا لنفسه ببلطته مهادا صغيرا يتسع له ولعفشه ، وأما العبيد فأمروا بالنوم أمام مدخل هذه الأرض ، وبهذه الطريقة أمنّا على متاعنا من اللصوص ، ونشرنا فوق الأشجار حصرا فكان لنا منها ظل طيب.