وكان يحيط بنا فى مسكننا مئات من التكارنة ينتظرون سفينة تقلهم إلى الحجاز ، وهم خلال ذلك يكسبون قوت يومهم تارة بالاشتغال حمالين (فالسواكنية قوم تمنعهم كبرياؤهم عن اتخاذ هذه الحرفة) ، وتارة بصنع قدور من الفخار لمطابخ المدينة. أما جملى فلم أبعه بأكثر من أربعة ريالات ، فإن أحدا من الناس لم يجرؤ على التقدم لشرائه بعد أن أعلن شيخ الحداربة رغبته فى أن يشتريه ، وعلى ذلك استطاع الشيخ أن يفرض الثمن الذى ارتأى. وكان الجمل على فرط ما أصابه من عناء السفر يساوى ضعفى هذا الثمن ، فأثمان الإبل هنا كأثمانها فى جنوب وادى النيل. وكان من القوة بحيث يطيق أن يحملنى ويحمل عبدى حين يأخذ التعب منا كل مأخذ ، وذلك فوق ما يحمل من متاع وماء. وكنت أسمح للغلام بركوبه أربع ساعات أو خمس فى الصباح ، ثم ينزل فأعقبه باقى النهار. وكان التجار السواكنية يعجبون أشد العجب لهذا التواضع ، ولكنه ـ والحق يقال ـ تواضع فيه من الرعاية لمصلحتى الشخصية أكثر مما فيه من الرفق بالغلام ، ذلك أننى كنت على يقين من أنه لو أعيا الغلام وخارت قواه ، لقاسمته هذا المصير لا محالة بعد قليل. وهبت علينا إبان مقامى بسواكن سموم لا أذكر لها نظيرا فى شدتها وحرها اللافح ، فقد التهب الهواء من حولنا كأنه نار الله الموقدة ، وكادت الرمال التى تسفيها الريح علينا من كل جانب تزهق أرواحنا لو لا لطف الله بنا.
ويدأ مركب صغير يوسق حمولته (واسم المركب منها فى البحر الأحمر «صاى») فأخبرت الأغا بأننى معتزم ركوبه. ولو كان الوقت غير الوقت ، والظرف غير الظرف ، لقصدت مخا أولا ، فإن الكولونيل ميست ممثل صاحب الجلالة البريطانية بمصر أولانى قبل مبارحتى القاهرة يدأ أخرى فوق أياديه الكثيرة علىّ ، فتفضل بالكتابة إلى عامل شركة الهند الشرقية بمخا ينبئه بأن سائحا بهذا الوصف قد يصل مخا من البر المقابل ، ويطلب إليه أن يمدنى بما أحتاج إليه فى أسفارى القادمة من مال. وكنت فى وقت من الأوقات أنوى التوغل فى جبال اليمن حيث أصول معظم قبائل البدو الذين يسكنون شبه جزيرة العرب ، وحيث تجد