أكثر عاداتهم وتقاليدهم القديمة باقية على نقائها القديم وفطرتها الأولى. فلما بارحت صعيد مصر كان فى نيتى الذهاب إلى مخا ـ سواء من مصوع أو من سواكن ـ ومن مخا إلى صنعاء عاصمة اليمن حيث أنضم إلى الحجاج اليمنيين فى رحلتهم السنوية إلى مكة عبر الجبال ، وكان القيام برحلة كهذه خليقا بأن يسدى لجغرافية بلاد العرب أجل خدمة ، ولعله كان يكشف عن حقائق هامة فى تاريخ بلاد العرب. بيد أن ما جمعت فى سواكن من معلومات عن حرب الحجاز زهدنى فى هذا المشروع ، فقد كانت الطائف آنئذ مقرا لقيادة جيوش محمد على ، وكانت طلائع جيشه على مسيرة أيام جنوبى هذه المدينة ، فى نفس الجبال التى كان علىّ أن أسلكها ، وفيها احتشدت كثرة الجيوش الوهابية. ولم يكن عندى بصيص من أمل فى النجاة بجلدى من هؤلاء المتهوسين الذين سيحسبوننى لا محالة جاسوسا تركيا ويضحون بى على مذبح انتقامهم.
وأمر الأغا ربان السفينة بأن يعفينى من أجرة السفر. وأمر بشىء من البلخ والسكر ـ وهما أفخر ما فى مخازن بيته ـ يحمل لى زادا فى السفينة. وأقلعنا مساء السادس من يوليو. وقد ندمت على ركوب هذه السفينة حين رأيت ما احتشد على ظهرها من جمع غفير. ولكنى فهمت بعد ذلك أن كل مركب يبحر من سواكن ابتداء من هذا الوقت لغاية شهر الحج (وهو نوفمبر) يغص بالركاب كما غص مركبنا. وكان أصحابى التجار السود هم وعبيدهم من الكثرة بحيث لا يجدون فى هذا المركب متسعا ، لذلك قرروا الانتظار حتى تحين لهم فرصة أخرى. وقد بلغوا جدة بعد أن بلغتها بثلاثة أسابيع. وكان لمركبنا ـ أو على الأصح قاربنا ، فهو لم يزد على ثلاثين قدما أو أربعين طولا ، وعلى تسعة أقدام عرضا فى أوسع نقطه ـ كان للمركب شراع واحد. وهو مكشوف لا ظهر له ولا مظلة. وكان قد وسق ذرة ليحتفظ بتوازنه على الماء. وكانت عدول الذرة (١) مغطاة بطبقات عديدة من الحصر والجلود أعدت مهادا لمائة وأربعة من الركاب بما فيهم الملاحون. ومن
__________________
(*) تنقل الذرة من التاكة إلى سواكن فى عدول يؤلف العدل منها حمل جمل ، وفى هذه العدول تشحن إلى جدة.