فقد اختلف الريس والربان على الجهة التى يقع فيها الشمال بالضبط. وأقبل المساء فاشتدت الريح ، واستبدل الملاحون بالشراع الكبير شراعا أصغر منه. وأرخى الليل علينا سدوله فكان بريق الماء حين بهتز يثير دهشة الزنوج وعجبهم ، وعبثا حاولوا فهم علة هذه الظاهرة من البحارة. وأنفقنا ليلة باردة مضنية ، فقد أعوزنا المكان الكافى للنوم ، وبدا على جوّابى الصحراء الشجعان شدة الخوف والفزع فى عرض البحر ، فكان ذلك مبعث تسلية للسواكنية.
١٦ يوليو ـ طالعنا فى الصباح الباكر ساحل بلاد العرب ، واتضح الآن جهل الربّان ، فبدل أن نجد أنفسنا تجاه ساحل جدة ـ حيث كان ينبغى لو أنه استرشد بإبرة الملاحين فى سيره ـ وجدنا أنفسنا جنوبها بخمسين ميلا على الأقل. ودخلنا خليجا صغيرا والريح تملأ شراعنا ، وكاد يغرقنا إعصار هب آنئذ. ووجدنا الشاطىء بلقعا لا آبار فيه ولا عيون إلى مسافة كبيرة ، ولم نر فيه أثرا للبدو. واشتد كربنا لقلة الماء ؛ فقد أوشك أن يفرغ ما أخذناه منه أخيرا فى عراقية ، ولم يبق فى قرب التكارنة قطرة. وكانت الريح معاكسة ولا أمل لنا فى بلوغ جدة فى أقل من يومين. وفى المساء ترك أكثر التكارنة السفينة قاصدين جدة سيرا على الأقدام ، فقد أوهمهم البحارة أنها أقرب كثيرا مما كانت ، وأشاروا لهم على جبل يبعد عن مرسانا اثنى عشر ميلا قائلين إن به عين ماء. ولكن الجبل ـ كما علمت فيما بعد ـ خلو من العيون ، ولم يكن هدف البحارة من هذا التضليل إلا التخلص من الحجاج خشية أن يكرههم العطش آخر الأمر على أخذ ماء البحارة غصبا (١). وقلّ أن تصل جدة سفن حجيج سواكنية لم يقاس فيها الركاب عذاب الظمأ ، فهم يحشدون فيها حشدا يستحيل عليهم معه أن يأخذوا من الماء أكثر من زاد أيام ثلاثة ما لم يضحوا بغيره من أسباب الراحة ، وهى تضحية لا يرتضونها. وجبل مكور الذى تقلع منه السفن عابرة للبر الغربى لا ماء
__________________
(*) قضى هؤلاء التكارنة البائسون يومين ونصفا قبل أن يبلغوا جدة ، ومات منهم فى الطريق ظمأ امرأة وغلام ، ووصل الباقون فى حالة من الإعياء يرثى لها ، وقد شكوا من كذب البحارة مر الشكوى.