لأن الزائرين لم يستطيعا أن يعللا وفودى إلى هذه الأصقاع النائية تعليلا مقنعا وعاد حسين كاشف إلى الضفة المقابلة واعدا إياى بأن يرسل الزورق ليحملنى وبعيرى إلى الضفة الأخرى. ولكنى ما عتمت أن رأيت الزورق يقلع شمالا ، وأنبئت أن المعسكر سينفض فى الغد ويعود الرجال إلى سكوت على مهل.
وبرغم ما شعرت به من أسف بالغ لفشلى فى زيارة الضفة الغربية للنيل ، فقد رأيت من الحمق أن أحاول المضى جنوبا إلى أبعد مما ذهبت. وكنت الآن بغير صاحب ولا ولى يحمينى فى إقليم لا يبعد سوى يومين ونصف عن الحدود الشمالية لدنقلة ، وهى المملكة التى فتحها أخيرا المماليك الذين اتهمت بالتجسس عليهم ، والذين كان أمراء المحس يظاهرونهم. وكنت أعلم كذلك أن الأميرين المملوكين اللذين لقيتهما فى الدر يتقدمان حثيثا نحونا ، وحملنى ما سمعت عنهما على الظن بأنهما قد يعترضان سبيلى فى إيابى. لهذا كله قررت أن أقفل راجعا إلى الشمال فورا ، لأننى لم أر من الحكمة أن أسافر فى صحبة أتباع محمد كاشف. ولكنى حين مثلت بين يدى هذا الحاكم لأستأذنه فى السفر ، طلب إلىّ فى جفاء أن أمكث إلى الغد وأن أسافر فى صحبته. ولما كنت قد ظفرت بالسلامة ـ وهى هدفى الأهم ـ ولم يكن الفضل فى ذلك إلا لتوجس الحاكم من الإساءة إلى والى مصر ؛ فقد فكرت فى أن أغامر بمطلب آخر ، فقلت إننى تواق إلى بلوغ الدر بأسرع ما أستطيع ، وأننى لهذا السبب لا أريد أن أتقيد برحلة جنده البطيئة. ولكنه ألح علىّ فى تأجيل سفرى ـ ولعله فعل ذلك أملا فى ابتزاز بعض الهدايا منى فأخبرته فى صراحة أننى أعد نفسى منذ الساعة أسيرا فى معسكره لأننى منعت حرية التصرف. فأجابنى فى فظاظته المعهودة «امش يا ....!» ، فصدعت بأمره توا. ولم تمض خمس دقائق حتى كنت قد تواريت عن هذا المعسكر الذى قضيت فيه يوما من أنكد الأيام التى مرت بى فى سنوات أربع من الرحلات. وبت ليلتى فى كوخ مهجور يبعد أربع ساعات عن تينارى قرب معسكر القراريش الذى نزلنا عنده قبل ذلك بيومين.
وقد يتساءل القارىء هنا : لم لم أنتحل صفة التاجر فى أثناء سفرى بالنوبة؟