تصميم مسبق ، وجهد كبير متواصل ، ومال وفير ، وما لعبته العاصمة الجديدة من دور مهم في مسيرة الحضارة العربية خلال الشطر الاكبر من القرن الثالث. وقد تيسر للمعتصم بالله ان ينهض بذلك العمل العظيم بما وهب من حب للعمران ، وللجندية والحياة العسكرية ، وما توفر له من المال. وقد اختار المكان المناسب للمدينة من حيث حسن الجو والمناخ ، وتوفر المياه ، وحصانة الموقع. وخططها بما يسد احتياجات عسكره من الأتراك ، ومتطلبات الحياة المدنية. ووزع الاعمال الانشائية المطلوبة لتأسيس المدينة على قواده وكبار رجاله بما كفل سرعة انجازها. ولم يبخل ببذل ما احتاجه لذلك من الاموال. فاستطاع ان يقيم مدينة واسعة كاملة المرافق في خلال مدة وجيزة تعتبر قياسية ـ اذ ابتدأ ببنائها في سنة (٢٢١ ه) وتم انجازها في اواخر السنة التالية ـ. ومع ان الصفة العسكرية غلبت على مؤسساتها ومرافقها عند تأسيسها ، اذ كان معظم سكانها في اول أمرها من الجند الأتراك الذين كانوا اهم أسباب تأسيسها ، بحيث أطلق عليها اسم «العسكر». الا انها ما لبثت ان قصدها اصناف الناس واستوطنوها باعتبارها حاضرة الخلافة. ولم تمض مدة يسيرة على تأسيسها حتى غدت من أمهات مدن الدنيا آنذاك. وقد أقدم اليها الخليفة نفسه من كل بلد من يعمل عملا من الاعمال ، او يعالج مهنة من مهن الزرع والغرس ، وحمل من سائر البلدان من اهل كل مهنة وصناعة فانزلهم في المدينة وأقطعهم فيها لبناء منازل لهم. فاتسعت عمارة المدينة واتصلت بيوتها وقصورها واسواقها ، وانتقل اليها عدد كبير من وجوه الناس واهل النباهة من سائر المدن والأمصار لطيب جوها وحسن موقمها وعمارتها.
الا ان المدينة لم تلبث ان امتد اليها الخراب عند ما النقل الخليفة المعتضد بالله عائدا الى بغداد في سنة (٢٧٩ ه) بحيث لم يبق منها بعد سنين قلائل سوى اطلالها. غير ان هذه الاطلال حفظت لنا