فاذا المسألة الأولى قد عادت كما بدأت ، وإذا كؤوس الجفون من الدموع قد ملئت ، فما أدري أي الليالي أغرب ، ولا من أي شيء منها أعجب ، هل من المنثورة من عينيه وكلامه ، أم من المنظومة التي يجلوها عند ابتسامه ، فذكرت عند ذلك قول البحتري ، وهذه الرواية صادقة لم أكن لها بالمفتري : ـ
ولما التقينا والتقى موعد لنا |
|
تعجب رائي الدر منّا ولا قطه |
فمن لؤلؤ يجلوه عند ابتسامه |
|
ومن لؤلؤ عند الحديث يساقطه |
فلما سمع ذلك الراعي الشيطان المريد ، قال اسمعوا هذا العقد الفريد ، فانه لا يصلح إلا لمثل هذا الجيد :
إنّا على ما سرّنا منهم |
|
وساءنا والله نهواهم |
لا نعرف الحق ولا بعضه |
|
إن نحن في الأعراض لمناهم |
قد ألفوا الأعراض عنّا وما |
|
كذلك كنّا قد عهدناهم |
حاشاهم أن يجتنى منهم |
|
حتى التجني المرّ حاشاهم |
عقودهم والزهر والزهر قد |
|
أضحت سواء وثناياهم |
جلّوا عن المدح فماذا عسى |
|
نقول فيهم إن مدحناهم |
بالبدر والنجم وشمس الضحى |
|
نظلمهم إن نحن قسناهم |
نستعمل الايجاز في وصفهم |
|
فغاية الوصف هم ما هم |
فقال يا عجباه من هذا الراعي البوال على عقبيه فما والله كان يخطر ببالي أن ذلك يخرج من بين شفتيه ، ولا شك أن المرء بأصغريه ولقد أدركت في بدني خفة ، وحصلت بين قلبي وبين السرور إلفة ، وطلع لي بدر الأنس بغير كلفة فقلت له : قد جئت بتورية من غير شعور ، فإن الكلفة قد عزمت من شأن البدور فتبسم ضاحكا وقال : ما برحت في نهج البلاغة سالكا ولا زمّة الفصاحة مالكا فانظم هذه الظريفة واجعلها في أبيات لتكون على السمع خفيفة فقلت مخترعا ولأمره مستمعا :
بين قلبي وبين قلبك إلفة |
|
اشبهت رقة النسيم ولطفه |
من وعاها بسمعه أدركته |
|
هزّة واعترته في الحال خفة |
ولقد زادت المودة حسنا |
|
حشمة إن دنا المزار وعفة |