علمي وفقهي متماسك وارتفعت وظيفة القضاء إلى درجة أن صار مزاحما للإمارة في قيادة المجتمع ، وبالتالي فقد يكون يجنح إلى خلق سوابق من عهد الولاة. وهذا ما لم يفعله ، إذ نسب تعيينات كثيرة إلى الوالي. ونحن نعلم أنّ الرأي العام في القيروان وفي أوائل العهد الأغلبي يمنح قيمة كبيرة لامتياز التسمية من طرف الخليفة نفسه. ونجد معلومة لدى أبي العرب والمالكي وكذلك النّباهي (١) تفيد أنّ جدلا طرأ في القيروان في الوسط العلمي حول كيفية تسمية ابن غانم : هل هي صادرة عن الخليفة أم عن الوالي ، والمقصود هنا الأمير الأغلبي على الأرجح. فأصدقاء القاضي ادّعوا للرفع من شأنه ـ ومن الممكن لتركيز استقلاليته بالنسبة للأمير ـ أنه يدين بتعيينه للخليفة. غير أنّ القاضي كذّبهم واعترف أنّ تعيينه يعود إلى الأمير ـ الوالي.
هل هذا يعني أنّ التقليد هنا اختلق هذه القصة لتعزيز سلطة الوالي في أوائل الفترة الأغلبية والرّفع من صورته؟ هذا ممكن. لكنّ الجوّ العدواني تجاه الأمراء المحليين كان طاغيا على الأدب المنقبي في إفريقية وبالتالي فنحن نقبل بما ورد فيه بخصوص دور الولاة في تسمية القضاة إلى حدود آخر الفترة التي نبحثها.
أمّا فيما يخصّ توزيع المهامّ العدلية بين القاضي والوالي ، فلم تكن الأمور واضحة. قد وجد دون شك تنافس بين الاثنين خصوصا عند ما دوّن الفقه فقويت تطلّعات القضاة ومطامحهم. هكذا نشهد تلاميذ مالك في الفسطاط مثلا يتساءلون عمّا إذا كانت أحكام الوالي صالحة وصحيحة وهل كان من حقها أن تكون نافذة المفعول مثل أحكام القاضي (٢) حيث لا تعتمد على الشريعة بكفاية. وكما في الفسطاط لا بدّ أنّ والي إفريقية تمادى على ممارسة القضاء بنفسه في أحيان عديدة ، بحيث تختلط علينا
__________________
(١) طبقات ، ص ٤٤ ـ ٤٣ ؛ رياض ، ص ١٤٧ ـ ١٤٨ ؛ النباهي ، تاريخ ... ، ص ٢٥ ، وهو يؤكّد أنّ التعيين تمّ بأمر من الرّشيد.
(٢) المدوّنة ، ج ١٢ ، ص ١٤٦.