الاستقلالية متوقّفة كثيرا على شخصية صاحب اللّقب. غير أنّه ومهما كان الأمر فإنّ القاضي معتبر كموظّف سام للسلطة ويعيّنه صاحب الحكم السياسي ، فهو مرتبط شاء أم أبي بالنّظام القائم. رغم ذلك فإنّ قامته أكبر لأنّ الوظيفة العدلية تفترض الموضوعية والتّسامي عن الضغوطات وقدرا من النزاهة ، وهي مرتبطة في الحضارة الإسلامية بسلطة الدّين أي القرآن ثم السنّة والفقه أي بالمركّب دين / علم. ولكلّ ذلك هيبة واحترام في نفوس النّاس.
ولذا ، قد يحدث أن يفوّض له الأمير صلاحياته ، كما يحدث في فترات الاضطراب والفتنة أن يفرض سلطته على الجميع وفي حالة شغور الحكم أن يظهر بمظهر زعيم الجماعة والمدافع عن حرمتها ، كما فعل ذلك أبو كريب في سنة ١٣٩ ـ ١٤٠ ه حيث أخذ قيادة المعركة ضد الخوارج على أبواب القيروان (١).
إنّ وجود مثل هذا التقليد السياسي والعسكري ضمن القضاء الإفريقي يعود في جانب كبير منه إلى وعي حادّ عند هؤلاء بكونهم يتقمّصون سلطة روحية انبنت شيئا فشيئا. وهذا ما يفسّر الدّور الذي قام به بعد ذلك أسد بن الفرات ، وهذا الدّور يطبع القضاء الإفريقي بصفة خاصّة وأكثر ممّا يجري عليه ذلك في الشرق. ودون شك ، كان القضاة في القرن الثاني منخرطين في سلك العلم ومؤتمنين على ومنفّذين للشريعة الإلهية.
وهكذا نتصوّر بسهولة أنّهم تأثّروا بتيار الزّهد والورع الذي نحت الحساسية الدينية لزمانهم وفيما بعد زمانهم وأنه وجد نزوع ، هنا كما في الشرق ، إلى الهروب من القضاء إمّا تورّعا من الاختلاط بدنس السّلطة وإمّا كموقف خاصّ بفئة اجتماعية تصبو إلى زرع الهيبة في صدور الشّعب. وترسّخت هذه النزعة في العهد الأغلبي ، لكنّ جذورها كانت موجودة من قبل. ولقد مثّل فعلا ابن فرّوخ بامتياز هذا الموقف الإسلامي
__________________
(١) المالكي ، رياض ، ص ١٠٧ ـ ١١٠ : قاوم عاصم بن جميل.