المخرّبة؟ لا يمكن للقيروان أن تتطلّع إلى الجنوب والوسط أكثر من الشمال إلّا بوضعها وسط إفريقية. وقد أراد بذلك ـ على الأرجح ـ أن يدير الظّهر للتقاليد الرومانية المسيحية التي ترمز إليها قرطاج. لقد كان «المصر» الجديد إذن تأكيدا على مصير جديد ، وتوجّه جديد أيضا ، سيعبّران عن إرادة الاستقرار النهائي للعرب في أرض إفريقية ، ورفع راية الإسلام بها على قدر المستطاع.
ولكن ، وبصفة مباشرة ، تدخل في اللعبة خاصّة اعتبارات استراتيجية يعني ضرورة أن يكون للجيش العربي قاعدة عمليّات قارة ، وموقع للتراجع في نفس البلاد. لقد أخفى تأسيس القيروان إذن تهديدا ضمنيّا للقبائل البربرية في الغرب مثلما كان ذلك ضدّ الحكومة البيزنطية القائمة. وبالفعل لم يبق عقبة ـ خلال الأربع أو خمس سنوات ـ من إقامته الأولى (٥١ ـ ٥٥ ه) عاطلا على المستوى العسكري ، إذ استغلّ سلبيّة البيزنطيّين وضعفهم المرتبط دون شك بحصار القسطنطينية الذي قام به معاوية الأوّل (٤٩ ـ ٥٢) ، ليبعث بغزوات قصيرة المدى في فعلها على ضيعات وأرياف بلاد مزاق. ولهذا أشار الإخباريون العرب والبيزنطيون معا إلى المذابح التي أحدثت في صلب المسيحيّين ـ وخاصّة دون شك في صلب الأفارقة ـ وذكر لنا أنّ البربر ، من شدّة ما أصابهم من الرّعب اعتنق أغلبهم الدّين الجديد. كان كل شيء ، يدل إذن على أنّ قدوم عقبة تزامن مع نوع من التشدّد في الأساليب العربية التي يفسّرها بسهولة عنف الرّجل ووضوح الرّؤية التي كانت لديه عن مهمّته ودوره.
يجب إذن أن ننتظر ردّة فعل قوية من البربر ، الذين أجبروا على التعويل على إمكانياتهم الخاصّة أمام الغياب الكلي للبيزنطيّين.
أبو المهاجر دينار (٥٥ ـ ٦٢ / ٦٧٤ ـ ٦٨١)
لقد كان الرجل الذي سيواصل بنجاح مؤكّد عمل عقبة متجنّبا الاصطدام المباشر والدّموي مع البربر ، على عكس عدوّه المميت. ومن الأكيد أنّ هذه الميزة كان لها دور أكثر من صفته كمولى في إضعاف دوره