مزاق كانت بالفعل المسرح الرئيسي لعمليّات العرب. ومن الطبيعي إذن أن تعاني من غزو بطيء ومضن ، ومع ذلك نرجّح أنّ أشباه الرّحل الذين اتبعوا الكاهنة قد استفادوا من انتصارهم على العرب ومن غياب أية سلطة في سهول الوسط والجنوب لينهمكوا في النّهب كما شاءوا ، وهو ما أقلق سكان المدن والأرياف المستقرّين وأثارهم ، فأثّر ذلك بخطورة على موقف الكاهنة السياسي ـ البسيكولوجي.
عرف حسّان ذلك ، فاختار الوقت المناسب ليعود إلى إفريقية باعتباره منقذ النظام العامّ (٨٠ ه / ٦٩٩ م). لقد دخل إلى قابس وقفصة وقسطيليّة دون معارك ، ثم صعد في اتجاه الشمال ليحاصر قرطاج (٦٩٩ م) ، في حين حاصر أسطول عربي المدينة وضرب الأسطول البيزنطي ، فسقطت قرطاج في أيدي العرب لثاني وآخر مرّة. فكان ذلك حدثا جوهريا ، لأنه يرمز ويحيّن تحوّل إفريقية نحو مصير شرقي إسلامي جديد ، وانهيار الحضارة الرومانية المسيحية ، الذي ازدهر قديما على ضفافها. لقد أبحرت عناصر الأرستقراطية البيزنطية نحو جزر البحر المتوسط الغربي وإسبانيا ، والتجأت بقايا الجيش إلى قلاع البروقنصلية التي أخذها حسّان واحدة بعد الأخرى.
وهكذا انتهت الهيمنة البيزنطية على إفريقية ، وبقي القضاء على حركة الكاهنة ، التي كانت تمثل لعبة بسيطة بالنسبة إلى حسان ، فالملكة البربرية رأت وضعيتها تتدهور بعداء السكان المستقرّين لها وبردّات الفعل المتعدّدة التي أثرت في صفوفها ؛ فقد وصلت إلى حد انعدام الثقة في نفسها ، وحضّرت فضلا عن ذلك موتها في التصالح المستقبلي بين المنتصرين والمنهزمين. وخلط الإخباريون في هذه المرحلة بين أحلام التنبّؤ والاستراتيجية السياسية ، غير أن الصورة لم تنقصها العظمة ، فالكاهنة دفعت ثورتها بثمن حياتها ووقع التغلب عليها مع بعض الأنصار في حدود ٨١ ه / ٧٠٠ م. وأسرع أغلب الجيش لطلب الأمان من حسّان ، فأعطاه لهم شرط أن توفّر له قبائل البربر عددا معيّنا من الرهائن ليؤلّف بهم