وفيه أيضا : أنّ حكم المبيح بالإباحة حينئذ ليس من جهة أنّه مجهول الحكم عند العقل ، بل لأنّه يحكم بأنّه منفعة مأذون فيها ، وحكم الحاظر بالحظر أيضا ليس من جهة أنّه مجهول الحكم ، بل لأنّه يزعم أنّه تصرّف في مال الغير وهو حرام ، فكيف يجعل محلّ النزاع مجهول الحكم ، مع كون مقتضى دليل الباحثين علمهم بالحكم؟
فإن قيل : إنّ ذلك مقتضى دليلهم نظرا إلى ظاهر الحال وإغماضا عن الاحتمال فقد يتبدّل الحكم بظهور خلافه ، كما لو حكم الشّارع بعد ذلك بالحرمة ، فيظهر الخلاف ويعلم أنّ الحكم السّابق إنّما كان حكما لمجهول الحكم.
قلنا : هذا كلام سار في جميع المطالب المعلومة عند النّاظرين ، فكثيرا ما يقام البرهان على المطلوب ، بل وقد يدّعى بداهته ثمّ يظهر خلافه. وذلك لا يوجب الحكم بكون ذلك الحكم العقليّ الذي هو مقتضى البرهان ، حكم ذلك الشّيء من حيث إنّه مجهول الحكم ، بل تكليف النّاظر في كلّ وقت مع التّخلية التامّة هو ما يصل إليه نظره ، سواء صادف الواقع أم لا.
نعم ، هذا الكلام يجري فيما لا نصّ فيه من الأحكام التي لا مسرح للعقل فيها أصلا ، مثل وجوب غسل الجمعة مثلا ، فإنّ حكمه قبل ثبوته من الشّرع ، من حيث هو مجهول عدم الوجوب ، لا مع قطع النظر عنه ، وأين هو من الحكم بالإباحة. فحينئذ يمكن أن يقال : إنّ للأشياء قبل العلم بأحكامها تفصيلا حكم عقليّ من حيث كونها مجهولا بالاستقلال وإن لم يكن العقل مستقلّا بإدراك أحكامها ، مع قطع النظر عن الجهالة ، وكلّ ذلك صدر من الغفلة التي أشرنا إليها (١).
__________________
(١) للفاضل الجواد وتبعه فيها بعض الأفاضل ممّن تأخّر عنه أيضا ، وفي حاشية الملا ـ